الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

لا بدّ في تكرار الأمرْ بالهبوط من نكتةٍ فذكَروا في ذلك وجهين:

أحدهما: قول الجبائي، وهو إنّ الهبوط الأوّل غير الثاني، فالأوّل كان من الجنّة إلى سماء الدنيا، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض.

الوجه الثاني: إنّ التكرار للتأكيد.

واعترض الإمام الرازي على أوّل الوجهين من وجهين:

أحدهما: إنّه قال في الهبوط الأوّل:وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } [البقرة:36]. فلو كان الاستقرار في الأرض إنّما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكرُه عقيبَ الأمر بالثاني أولى.

وثانيهما: إنّ ضمير { ٱهْبِطُواْ مِنْهَا } عائدٌ إلى الجنة: وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنّة.

أقول: للمناقشة في كِلا البحثين مجالٌ:

أما الأوّل: فإنّ الاستقرار المذكور وإن لم يحصل إلاّ بعد الهبوط الثاني، لكن يجوز ذكره سابقاً عليه لفوائد أُخرى كالتشديد، والمبالغة في الاخراج، كمَن يقول لأحد يريد اخراجه من داره " أُخرُج فإنّك لا تليقُ بهذه الدار، ومكانك ينبغي أن يكون في بلاد الهند ".

ويؤيّد قولَ الجبائي ما ورَد في حكاية آدم وخروجه من الجنّة أنَّه " لما أُمر بالخروج أتى إلى باب الجنة ليخرج منها، فلمّا أراد أن يضعَ قَدمَه خارجاً قال { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فلمَّا سمع جبرائيل منه أوقفَه انتظاراً للرحمة، فقال " إِلهي ارحم عليه، فقد ذكَر كلمةً عظيمة " فأعاد الله الأمر بالهبوط، ونبَّه على أنّ له في هذا الأمر رحمة آجلة أعظم وأوسع من هذه الرحمة العاجلة " فالقصّة دالّة على أنّه وقَع لآدم وقفة في سور الجنّة المضروب بينها وبين سماء الدنيا.

والمراد من السماء الدنيا على طريقة التوصيف مجموع عالَم السماء، لأنّها بالقياس إلى الجنّة دانية، فالأمر بالهبوط الثاني كان متعلّقاً بنزول آدم من السماء إلى الأرض بعد خروجه من الجنّة بالأمر الأوّل إلى بابها الذي هو في عالَم السماء.

وأمّا الثاني: فعودُ الضمير إلى الجنّة إنما وقَع لأنّ ابتداء الهبوط كان منها، وليس قوله { مِنْهَا } داخلاً في المأمور به.

ثمّ قال: " وَعندي وجهٌ ثالث أقوى من الوجهين، وهو أنّ آدمَ وحواء لما أتيا بالزلّة أُمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط. فأعاد الله الأمر بالهبوط مرّة ثانية ليعلما أنَّ الأمر بالهبوط ما كان جزاءً على ارتكاب الزلّة حتى يزول بزوالها، بل هو باقٍ بعد التوبة، لأنّ الأمر بالهبوط كان تحقيقاً للوعد المتقدّم في قوله:إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30].

وقيل: سبب التكرار اختلاف المقصود في الأمرين. فإنّ الأوّل: دلّ على أنّ هبوطَهم إلى دار بليّة يتعادون فيها ولا يخلّدون، والثاني: أشعر بأنّهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى نجا، ومن ضلّ هلك، كما يقال: " اذهبْ سالماً معافياً، اذهبْ مصاحباً " وإن كان الذهاب واحداً لاختلاف الحالين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7