الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }

هذا هو آخر درجات النزول لآدم (عليه السلام) من عالَم القدس، ودار الكرامة، وذلك أنَّ آدم (عليه السلام) لما كان مستصلحاً لعمارة الدارين، وأراد اللهُ بحكمته الكاملة منه عمارةَ الدنيا كما أراد عمارةَ الآخرة والجنَّة، كوَّنه من التراب تكويناً، وركّبه تركيباً يناسب عالم الحكمة والشهادة، وهي هذه الدار الدنيا.

وما كانت عمارةُ الدنيا تأتي منه وهو غير مخلوق من أجزاء أرضيّة سفليّة بحسب قانون الحكمة، فمِن التراب كوَّنه، وأربعين صباحاً خمّر طينتَه - كما ورد في الحديث القدسي - ليبعد بالتخمير أربعين صباحاً أربعين حجاباً من الحضرة الإلهيّة، كلّ حجاب هو معنى مودع فيه يصلح لعمارة الدنيا، ويتعوّق به عن الحضرة الإلهيّة ومواطن القُرب. إذ لو لم يخرج عنها ولم يتنزّل إلى الدنيا لم يصلح لعمارة الدارين جميعاً، ولخلافة الله في أرضه، ثمّ لأن يكون زينةً للعالَم الأعلى وملَكاً في الآخرة ملكاً كبيراً.

فبالتبتّل إلى طاعة الله، والرجوع إليه بالعلْم والعمل، والاقبال عليه، والانتزاع عن التوجّه إلى السفليّات، يخرج كل وقت عن حجاب أمر مودع فيه عند التركيب، وعلى قدر زوال كلّ حجاب ينجذب إلى مقام نزل منه، ويتّخذ منزلاً في القرب من الحضرة الإلهيّة، التي هي مجمع الأُنس ومنبع العلوم، ومصدر الحقائق.

فإذا تمّ السلوك والتبتّل، وزالت الحجب، انصبّت على القلب مياه العلوم والمعارف، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): " مَن أخلَصَ لله أربعين صباحاً ظهرتْ مِن قلبهِ على لسانِه ينابيعُ الحكمةِ " فهذه الأربعين صباحاً في التمحيص والتطهير في مقابلة تلك الأربعين صباحاً في التخمير والتركيب.

ثمّ اعلم أنَّ العلوم الحقيقيّة والمعارف هي بعينها أعيان صوريّة في عالَم الحسِّ والشهادة، انقلبت بإكسير نور العظمة الإلهيّة بها، كما أنَّ هذه الصور أُصولها أيضاً أعيان عليّة، وصور مفارقة عند الله صارت متمثّلة في هذا العالَم بتقدير الله. فلكلّ غيب شهادة، ولكلّ ظاهر باطن. فنزولها وصعودها على وفْق هبوط آدم (عليه السلام) وعُروجه تكميلا للحكمة وإظهاراً للقدرة.

فصل

قال بعض الحكماء في لِميَّة إخراج النفوس من جنّة الأرواح لجناية وقعت: إنّ النفوس الجزئيّة لمّا هبطت من العالَم الذي كانت، وسقطَت عن مراتبها العالية لجناية وقعت من أبيها وأمّها، غرقت في بحر الهيولى وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها:ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [المرسلات:30]. فتفرّقت في هياكل الأجسام وتمزّقت بعد وحدتها وجمعيّتها؛ وتشتَّتَ شملُها، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: { ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ }.

وعرَض لها عند ذلك من الأهوال، والدهش، والمصائب مثلُ ما عرَض لقوم ركّاب البحر لمّا اشتدت بهم الريحُ، واضطرب بهم البحرُ، وهاجت بهم الأمواجُ، وانكسرت منهم السفينةُ، وغرقوا في بحر الطبيعة، وغاصوا في ظلمات الماء، وتفرّقوا في كلّ فجٍ عميق من الجزائر والسواحل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد