الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

هذه نعمة رابعة من نعم الله في حقّ الإنسان، المعدودة في هذه الآيات التي أُولاها ما في قوله:كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [البقرة:28] - الآية -.

وثانيتها: ما في قوله:هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة:29].

والنعمة الثالثة: ما في قوله:وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30].

والظرف معطوف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلاّ فهو معطوف بما يقدّر عاملا فيه على الجملة المتقدّمة، بل القصّة بأسرها على القصّة الأخرى.

لمّا أنبأ آدم (عليه السلام) الملائكة بالأسماء الحسنى بحسب مقامه الجمعي، وعلّمهم ما لم يعلموا - إذ لم تعط نشأتهم ذوقاً ووجداناً- ، أمَرهم الله بالسجود له عندما سوّاه ونفخ فيه من روحه، وكان الأمر به إيّاهم قبل تسويته ونفخ الروح فيه، لقوله تعالى:فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر:29]. وسبب ذلك أَنّه كان امتحاناً لهم، وإظهاراً لفضله عليهم من جهة استجماع مقامه الجمعي الكمالي لجميع مقامات مظاهر الأسماء.

معنى السجدة وسبب مسجوديّة آدم

والسجود في الأصل تذلّل وانقياد مع تطأطؤ الرأس. يقال: سجَد البعيرُ وأسجَد: طَأطَأ رأسَه لراكبه. قال الشاعر:
" وقَلنَ له اسجد للَيلى فأسجَدا "   
وقال:
" تَرى الأكم فيها سجَّداً للحوافِر "   
أي تلك الجبال الصغار كانت مذلّلة لحوافر الخيل، ومنه قوله تعالى:وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن:6].

وفي الشرع وضْعُ الجبهةِ على الأرض قصداً للعبادة.

والمراد منه هاهنا إمّا المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم تحيّةً وتعظيماً له، كسجود إخوة يوسف وأبويه له، أو التذلّل والانقياد بالسعي في تحصيل ما تناط أمورُ معاشهم، وتتمُّ به أحوالُ كمالهم بحسب معادهم، لأنهم وسائطُ تدبيرات هذا العالَم، وتحريكات الأجرام، واستحالاتها، وانقلاباتها حتى تتكوَّن منها الكائناتُ التي غايتها خِلقةَ الإنسان، لأنّ من أفراده عرفاءُ الرحمن.

وإمّا المعنى الشرعي: فهاهنا يحتمل السجودُ وجوهاً ثلاثة:

إمّا أن يكونَ المسجودُ له هو الله تعالى.

فحينئذ إمّا أنه جَعَلَ آدمَ قبلةً لسجودهم كالكعبة تفخيماً لشأنه.

وإمّا أنَّ آدمَ كان سبباً لوجوب السجدة، فكأنّه تعالى لمّا خلَقَه بحيث كان أنموذجاً للمبدعات كلّها - بل للموجودات بأسرها - وجعله نسخةً مختصرة لما في العالَم الروحاني والعالَم الجسماني، وذريعةً للملائكة إلى استيفاء ما قدَّر لهم من الكمالات الفعليّة، وفاضَ عليهم من الإشراقات النوريّة من جهة تحريكاتهم الكليّة، ووصلة إلى ظهور ما صدَر عنهم من الخيرات وترتَّب عليهم من وجود الأكوان الصوريّة والحوادث الأرضيّة بواسطة الحركات السماويّة، فأمروا بالسجود تذلّلاً لما رأوا من عظيم قدرة الله، وباهرِ آياته في نظْم العالَم من الأعلى إلى الأسفل، ثمّ من الأسفل إلى الأعلى بواسطة الإنسان، الذي به ترتقي سلسلة الوجود - الهابطِ إلى أسفل السافلين - إلى أعلى عليّين، وشكراً لِما أنعم الله عليهم بواسطته.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد