الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

اعلم أنّ هذه الآية، إشارة إلى معرفة النفس الإنسانية، وشرح ماهيّتها وإنيّتها، وكيفيّة نشؤها من الأرض وسرّ خلافتها، وذلك لأن معرفة النفس أمّ الفضائل، وأصل المعارف - كما جاء في الوحي الإلهي: " اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربّك " وفي كلام النبي (صلى الله عليه وآله): " أعَرَّفَكُم بنفسه أَعْرفُكُم بربّه " وفي كلام بعض الأوائل: " مَن عرف ذاته تألّه ".

وذلك لأنّها إذا عرفتْ، كانت مفتاح خزائن المعرفة، وباب حكمة ربّ العالَمين، وصراط الحقّ واليقين، وميزان يوم الحساب، ونور المارّين إلى الجنة؛ وإذا جهلت، كانت ظلمة القبور وضيقها، ووحشة الصدور وضنكها؛ وعرضة الهلاك والعمى والدثور، وعذاب الآخرة يوم النشور.

فقوله: { وَإِذْ } وضع - كما قيل - لزمان نسبة ماضية وقعت فيه أخرى، كما أن " إذا " وُضع لزمان نسبة مستقبلة تقع فيه أُخرى، ومحلّهما النصب أبداً بالظرفية لفعل مضمر كـ " اذكر " ونحوه، أو مذكور كـ " قالوا " في هذه الآية، وإنّما أضمر " اذكر " فيما أضمر، لأنّه جاء عاملاً له صريحاً في كثير من مواضع القرآن. وعن معمّر: إنّه مزيد.

اعلم أنّ قول الله [تعالى] فعليٌّ عند المحقّقين كما مرّ، وهو عبارة عن إنشاء أمر يستفاد منه مشيئة الله تعالى في خلقه، فقوله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } إعلامه إيّاهم ذلك بأحد وجهين؛ إمّا بافاضة صور الحقائق التي هي من مبادئ النشأة الإنسانيّة عليهم؛ أو باطّلاعهم على شيء من عالم أمره تعالى، المشتمل على جميع الأقوال المتعلّقة بالأكوان الخلقيّة.

و " الجعل " على ضربين: ابداع نفس حقيقة الشيء، وتأييسه أو تصييره شيئاً آخر. والأول أعلى في باب الجاعليّة من الثاني، فـ { جَاعِلٌ } إن كان بالمعنى الأول، كان بمعنى مبدع أو خالق، فلا يستدعي مجعولاً إليه، وإن كان بالمعنى الثاني، كان له مجعولٌ ومجعولٌ إليه - وهما المفعول الأول والمفعول الثاني باصطلاح النحاة -، وهما " فِي الأرْضِ " و " خَليفَةً "؛ وإنّما عمل فيهما، لأنّه بمعنى الاستقبال، ومعتمد على مسند إليه.

و " الخَلِيفَةُ " من يخلف غيره وينوب عنه لأجل مناسبة تامّة يستحقّ بها للخلافة لا توجد في غيره، وإلاّ لكان وضعاً للشيء في غير موضعه، و " الهاء " فيه للمبالغة.

وقد تحيّرت العقول في أنّ استحقاقية آدم للخلافة الإلهية بماذا؟ فقيل: لتحمّله التكليف. وقيل: لطاعته مع وجود الصوارف البدنيّة كالشهوة والغضب عنها. وقيل: لجامعيته بين صفات الملائكة وصفات البهائم. وأسدّ الأقوال كونه جامعاً لجميع المظاهر الأسمائية.

واعلم أنّ لله خلفاء في كلّ عالم ونشأة، ولخلفائه أيضاً خلفاء، وبهذا جرت سنّته، لا لحاجة له إلى من ينوبه في فعله، لتعاليه عن القصور في فعله، لكونه تمام كلّ حقيقة، وكمال كلّ وجود؛ بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقّي أمره من لدنه بغير واسطة، ولذلك لم يستنبئ مَلَكاً من الملائكة العالين في الأرض كما قال:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد