الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

هذه الآية من أعظم الدلائل على شرَف الإنسان، ومن أقوى الوسائل إلى معرفة الرحمن. أما دلالتها على شرفه فبوجهين:

أحدهما: ما وجّهه المفسّرون؛ وهو أنّها بيان لنعمة أُخرى بعد النعْمة الأُولى مرتّبة عليها، فإنّ الأولى كانت خلْقهم أحياءَ قادرين مرّة بعد أُخرى، وهذه خلْق ما يتوقّف عليه بقاؤهم النوعي بعد الشخصي، ويتمّ به معاشهم المبتني عليه معادهم.

وما أحسنَ رعاية هذا الترتيب منه تعالى، فإن الإنتفاع بالأرض والسماء وما في كلّ منهما، إنّما يكون بعد حصول الحياة، فلهذا ذكَر الله أمر الحياة أولاً، ثمّ أردَفه بذكر الأرض والسماء.

وقوله: { لَكُمْ } ، يدلّ على أنّ المذكور بعد قوله: { خَلَقَ } ، لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا، أمّا في الدنيا، فلمصالح أبداننا، ولنتقوّى على الطاعات، وأمّا في الدين، فللتفكّر فيها، والتدبّر في آيات الأرض والسماء، وعجائب فطرة الله فيهما، فهذا دالّ على فضيلة الإنسان حيث خلَق الله لأجل انتفاعه وجميع ما في الأرض والسماء، كما قال:وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الجاثية:13].

واستشكل هٰهنا بأن الله لا يفعل فعْلاً لأجل غرض، لأنّه لو كان كذلك لكان تعالى مستكمِلاً بذلك الغرَض، والمستكمِل بغيره ناقصٌ بذاته؛ وذلك على الله [تعالى] محالٌ، لأنّه منبع كلّ خيرٍ وكمال.

وهذا أصل مستحكَم الأساس عند الحكَماء الأوائل، فإنَّهم أشدّ الناس إثباتاً لهذا الأصل، فقالوا: " إنّ العالي لا يلتفِت إلى السافل " ، لكنْ حَجَبَ هذا الأصل طائفة من الناس عن كثير من الحقائق الدينيّة والقوانين الشرعيّة مثل مسئلتنا هذه.

لا يقال: إنّ فعله تعالى معلّل بغرَض لا يعود إليه - بل إلى غيره -.

لأنّا نقول: عود ذلك الغرَض إلى ذلك الغير، هل هو أولى به [تعالى] من عدمه، أوليس بأَوْلىٰ؟ فإن كان أَوْلىٰ به تعالى، فيعود المحذور المذكور. وإن لم يكن تحصيله غرضاً مؤثّراً أصلاً - والمفروض إنّه غرضٌ معللٌ به فعله تعالى.

وأيضاً، كلّ من فعل فعلاً لغرَض، كان قاصراً عاجزاً عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل، والقصور والعجز محالان على الله تعالى.

فهذه وغيرها هي وجوه دالّة على خلاف ما يستفاد من هذه الآية، وكثير من الآيات، ويبتنى عليه القوانين الدينيّة، وبه ترتبط المسائل المعاديّة من الحشر والجزاء والثواب والعذاب، والجنّة والنار، وما أشبهها، ولم أرَ أحداً ذكَر شيئاً مفيداً لحلِّ هذا الإعضال وفكّ هذا الإشكال.

والذي يخطر بالبال في هذا المقام لدفع هذه العقدة من الأوهام: إن فعل الله ليس فعلاً واحداً، بل أفعال كثيرة حسب كثرة الموجودات الممكنة، والذي قامت البراهين على أنّه لا يكون معلّلاً بغيره، ولا ذا غاية سواه، هو فعله الخاصّ الذي صدر عنه أولاً وبالذات، أو فعله المطلق، فإنّ ما هو أحد هذين، فالفاعل والغاية فيه ذاته الأحديّة الصمديّة، وأمّا فعله الذي صدَر بعد ذلك، فهو معلّل بغرض، وهكذا لكلّ فعل ذي غرض غرض، حتى تنتهي الدواعي والأغراض والغايات إلى غاية لا غاية لها، وداع لا داعي له، وهو ذاته الذي هو غاية الغايات، ومنتهى الدواعي والرغبات.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد