الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ }

أراد أن يذكر صفة الفاسقين كشفاً عن حالهم، وايضاحاً لسبب ضلالهم، وتقريراً لرسوخهم فيما هم عليه، ليدلّ على نكالهم في مآلهم من الخسران العظيم والعذاب الأليم.

و " النَقْضُ " في اللغة: فسْخ التركيب وفكّة. وإنما ساغ وشاع استعماله في إبطال العهد، تشبيهاً له بالحبْل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر؛ ثمّ إنّ ذكر المشبّه به - وهو الحبل - كان ترشيحاً للمجاز، وإن أطلق مع المشبّه - وهو العهد - كان رمزاً إلى ما هو من روادفه، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر المستعار، ويرمزوا بذكر شيء من روادفه، فينبّهوا على مكانه، كقولك: " شجاعٌ يفترسُ أقرانَه " تنبيهاً على أنه أسدٌ في شجاعته. و: " عالمٌ يُغْتَرَف منه " تنبيهاً على أنّه بحْرٌ في علمه وإفادته.

ومن قبيل الأول قول ابن التيهان في بيعة العقبة: " يا رسول الله، إنّ بيننا وبينَ القومِ حِبالاً ونحن قاطعوها، فنخشى إن اللهُ [عز وجل] أعزّك وأظهرك [على قومك] أنْ ترجع إلى قومك ".

و " العَهْد ": المَوْثق، وجاز استعماله في كلّ ما من شأنه أن يتعاهد ويتحفّظ به، كالوصايا والايمان والنذور والأوقاف؛ ويقال للدار من حيث إنها يراعى بالرجوع إليها، وللتأريخ لأنّه يحفظ.

[ما هو " عَهدُ الله "؟]

ثمّ اختلفوا في المقصود من هذا العهد على أقوال:

الأول: ما ركز في العقول من قوّة الإستعداد لإدراك الحجج القائمة الدالّة للعباد على صحّة توحيده وصدق رسوله. وهذا معنى قوله:وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف:172]. وعليه يحمل قوله:أَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة:40]؟

الثاني: أن يُعنى به ميثاقاً أخذه من الناس وهم على صورة الذرّ، وأخرجهم من صلب آدم عليه السلام كذلك، وهو معنى قوله:وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الأعراف:172] الآية.

أقول: وهذا عند التحقيق راجع إلى الوجه الأول.

والثالث: أن يُعنى به ما دلّ عليه بقوله:وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر:42]. فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه، ولم يهتدوا، فقد نقضوا عهدهم وميثاقهم.

وهذا مرجوحٌ، لاختصاصه بطائفة مخصوصة يرد عليهم الذم فيما التزموا باختيارهم من أنفسهم، بخلاف الأول، فإنّه عامٌّ في كل من ضلَّ وكفر، ويلزمهم الذمّ لأنّهم نقضوا عهداً أبرمه الله تعالى، وأحكمه بما أنزله من دلائل الآفاق والأنفس، وشواهد الكتب والرسل بالحجج البيِّنة، مع ما أودع في العقول.

قال المتكلِّمون في إنكار الوجه الثاني وإسقاطه: كيف يحتجّ الله تعالى على عباده بعهدٍ وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بما أذهب علمه عن قلوبهم بالسهو والنسيان، فكيف يجوز أن يعييهم بذلك ويذمّهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6