الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

لمّا أثبت الله حقيَّة القرآن وإعجازه بالدليل، ووقع الايعاد للمنكرين له، والوعد للمؤمنين به على أتمّ وجه وأبلغه، أراد أن يشير إلى ردّ شبه الكافرين والمنافقين في ذلك " وهي أن ذكر الأشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء، فالقرآن لاشتماله عليها - كالنحْل والذباب والعنكبوت والنمل -، لا يكون فصيحاً - فضلاً عن كونه معجزاً -.

فأجاب: بأنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها، إذ الشرط في المثال أن يكون على وفق الممثّل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعِظم والحقارة، والشرف والخساسة، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال، لأن الغرض الأصلي منه ايضاح المعنى المعقول، وإزالة الخفاء عنه، وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه، فإنّ العقل الإنساني ما دام تعلّقه بهذه القوى الحسيّة، لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.

ولذلك شاعَت الأمثال في الكتب الإلهيّة، وفشَت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم، وصحف الأوائل ومسفوراتهم - سيّما في العلوم الهندسية -، تتميماً للتخيّل بالحسّ، فهناك يضاعَف في التمثيل، حيث يمثَّل أولاً المعقول بالمتخيل، ثم يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكَّل.

ونحن نرى الإنسان، إذا ذكر معنى وحده، أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، فإذا ذكر التشبيه معه، أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شكّ أن الثاني يكون أكمل، وذلك لأن من طبع الخيال المحاكاة، فلا يلوح معنى كما ينبغي إلاّ إذا ذكر مع المثال الصحيح.

وهذا ممّا لا تخفى استقامته ولا تغبى صحّته على من به أدنى مسكة، لكن ديدن المحجوج المبهوت، والمحجوب المقطوع عن عالم الملكوت، لفرط الحيرة والعجز، يعوّل على المكابرة حيثما ينضغط في مضائق المغالطة لدى المناظرة أن يدفع الواضح المستقيم، لسوء فهمه، وآفة طبعه السقيم.
وكمْ من عائبٍ قولاً صحيحاً   وآفته من الطبع السقيم
فليس بمستنكر من الله سبحانه أن يمثّل الحقير بالحقير، كما يمثّل الخطير بالخطير، وإن كان الممثّل بالمحاكي أعظم من كل عظيم، بل لغاية عظمته يحيط بالصغير كما يحيط بالعظيم، ولا يعزب عن عمله ذرّة واحدة ممّا في الأرض والسماء، ودقيقة من دقائقها، كما لا تعزب عنه عظائم الأشياء وجلالها؛ لأنه مع كل شيء لا بمزاولة، وغير كل شيء لا بمزائله، وهو أعلى من كلّ عالٍ في علوّه، وأدنى من كلّ دان في دنوّه، فلا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في الحقارة والقلّة.

فمن زعم أن التمثيل بهذه الأشياء الحقيرة، لا يليق بالله، فذلك لجهله بالأحكام الإلهيّة، والأوصاف الربوبيّة، ورحمته الواسعة، لأنه تعالى هو الذي خلق بحكمته الكبير والصغير، ورحمته في كل ما خلق وبرء عامّ لأنه أحكم جميعه، وليس الصغير أخفى وأخفّ عليه من العظيم، ولا العظيم أجلى له وأصعب عليه من الصغير، بل الكلّ بمنزلة واحدة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد