الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

المقالة الثانية عشرة:

في قوله سبحانه: { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ }

وفيه أطوار:

الطور الأول

في اللَّفظ

" اللاَّم " في " الدين " إمّا أنه لام العهد كما ذهب إليه بعض، أو أنه بدل من الإضافة كما رآه آخرون، وهو مثل قوله تعالى:فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات:41]. أي: مأواه، والمراد " في دين الله ".

و " الدين " معناه في الأصل: العادة والشأن، ودانه: أذلّه واستعبده، يقال: دنته، فدان، ثم استعمل بمعنى الجزاء: دانه ديناً، أي: جازاه، يقال: " ما تُدين تدان " أي: كما تجازي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت، وقوله تعالى:أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات:53]. أي: مجزّيون، ومنه: " الدَّيان " في صفة الله، و " قوم دين " أي: داينون، والمدين: العبد. والمدينة: الأمة كأنهما أذلّهما العمل ودنته: ملكته، ومنه سميَ المصر " المدينة " ثم استعمل بمعنى الطاعة، ودان له: أطاعه، ومنه " الدين " ، والجمع: " الأديان " وقد دان بكذا، ديانة وتديّن به، فهو دَيّن ومتديّن.

الطور الثاني

في المعنى

والتحقيق فيه: أنَّ " الدِّين " في الحقيقة، هو التسليم والرضا الحاصلين بسبب العقائد العلميّة التي وقعت بإفاضة الله على القلب المطمئن بالإيمان لمناسبة ذاتيّة، أو كسبية بمزاولة الأفكار والأنظار في طلب الكشف واليقين، وكما أنَّ العلوم الضروريّة تحصل في القلب بمجرّد الإفاضة من غير إكراه وجبر، فكذلك العلوم النظريّة والمعارف الإلهيّة إنَّما تحصل عقيب المبادئ والمقدمات الإلهاميّة، أو التعليميّة بمجرد الإلقاء في الروع، والتأثير في الباطن، والقذف في القلب من غير إجبار في الظاهر وإكراه في القالب.

وذلك لأن الدِّين أمر باطني، ولا تسلّط لأحد على باطن الإنسان وقلبه إلاَّ للواحد الحق، من جهة المناسبات الذاتيّة، والقربات المعنويّة، والمواجيد الذوقيّة، والمكاشفات الشوقيّة، والتجليّات الإلهيّة، وقد ورد في الخبر: " إنَّ الله تعالى إذا تجلّى لشيء خضع له باطنه وظاهره ".

وفي الحديث النبوي عليه وآله أفضل الصلوات والتسليم: " ليس الدين بالتمنّي ".

مع أن التمنّي نوع من الاختيار، فكيف يحصل بالإكراه - وهو الإجبار - وذلك لأنّ الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً، والتسليم لأحكام الحق تعالى باطناً من غير حرج في الباطن، كقوله تعالى:إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران:19]. وقوله:فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء:65].

الطور الثالث

فيما سنح لنا بالبال في تحقيق المرام وفي انتظامه بما سبق من الكلام

إنَّ الله سبحانه وتعالى بعدما بيَّن معارف التوحيد الذاتي، والصفاتي، والأفعالي بوجه شاف كاف متعال، أراد أن يشير إلى طريق العبودية لهذا المعبود الموصوف بغاية الجمال والجلال، المنزّه عن المماثل في الكمال والشريك في الأفعال، فأشار إلى " مقام الرضا " الذي هو من لوازم المعرفة، واليقين، والبصيرة التامة، في أمر الدين، وهو أعلى مراتب العابدين قبل حصول الفناء، وأجلَّ مراتب العارفين الصديقين في هذه الحياة الدنيا حين بقاء الوجود فيهم بعدُ، وعدم اندكاك جبل هويتهم في ملاحظ الهويَّة الأولى، فقال: { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد