الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

اعلم - هداك الله إلى حقائق الإيمان - أنّ أصول الدين وأركان اليقين، هي العلم بأحوال المبدء - من توحيده وعدله - وأسرار المعاد - من الرجوع إليه والجزاء - وسرّ النبوة وما يتعلّق بها؛ والله سبحانه لمَّا تكلَّم في التوحيد والنبوّة، تكلَّم بعدهما في المعاد، من عقاب الكفّار وثواب الأبرار، وإنَّما أخَّره عن إثبات النبوَّة، لتأخُّر وقوعه، ولأنّ العلم به لا يحصُل إلاّ من جهة اتّباع الوحي والنبوّة، لقصور العقول البشريَّة عن إدراك أحواله.

ومن عادة الله تعالى، أنّه ذكر آية في الوعيد، عقَّبها بآية في الوعد، وإذا أخبر بالإنذار والترهيب، شفعه بالبشارة والترغيب، فلمَّا ذكر الكفَّار وأعمالهم، وأوعدهم بالعقاب، شفعه ببشارة عباده الذين جمعوا بين العلم والعمل، والتصديق والطاعة.

واعلم أنَّ أحوال المعاد نوعان: روحاني وجسماني:

والأول: يمكن إثبات وقوعه بالعقل على وجه ضعيف ناقص، وبالشرع على وجه قويّ تامّ.

والثاني: يمكن إثبات إمكانه بالعقل جملة، بتصديق الرسالة، وخبر النبوَّة. وأما إثبات وقوعه تفصيلاً فلا يمكن بالعقل، لكن الإعتقاد به تسليماً وايماناً يحصل لكل مسلم منقاد لأحكام النبوّة.

وأمّا العلم بثبوت أحوالهما عرفاناً وكشفاً فيحتاج إلى إحكام طريق المتابعة وتأكيد الإخلاص في اقتباس أنوار النبوّة من مشكاة القرآن والحديث، بالعبوديّة التامّة، والتدبّر في آيات السموات والأرض وغاياتها، وعواقب المكوّنات ونهاياتها، والإطّلاع على أحوال النفس الإنسانيّة وتطوّراتها في الحالات، وتقلّباتها في النشئآت.

ثمَّ إنّه تعالى ذكر مسئلة المعاد في آيات لا تحصى، لصعوبة فهمها على الأفهام، وكثرة الشُبه والشكوك الواردة فيها من الأوهام، وذكر إثباتها على وجوه مختلفة:

فتارةً ذكرها بعد حكاية إنكار المنكرين للحشر والنشر، وحكم بأنّه واقع كائن من غير ذكْر الدليل، لجواز إثبات ما [لا] يتوقَّف اثبات النبوّة عليه بالدليل النقلي، والاعتقاد بهذه المسئلة على وجه تكلّف به جمهور الخلْق، ويكفي لصحّة العمل من هذا القبيل، فجاز إثباتها بالنقل.

مثاله، ما حكم هٰهنا بإثبات النار للكفّار والجنّة للأبرار، وما أقام عليه دليلاً، بل اكتفى بالدعوى، وإن كانت فيه إشارة لأهل الإستبصار إلى أنوار الهداية لأسباب وجود الجنّة والنار، وكيفيّة نشؤهما في الآخرة من الأعمال والنيّات، فإنّ " تعليق الحكم بالوصف مشعرٌ بالسببيّة ".

فالبصير المحدِق، والعارف المحقِّق، يبصر ويعرف بنور بصيرته عين عرفانه، أنّ جحود الجاحدين للحقَّ بعد وضوحه، وريب المنكرين للقرآن عند سطوع نوره وإشراقه، وايقادهم نار الفتنة والعداوة بحرقة في صدورهم، وقساوة في قلوبهم، يذهب بهم طريق الأشرار، ويسلك بهم عن سبيل الأبرار. ويعذّبهم في الآخرة بعذاب الكفّار، ويجعلهم بقلوبهم وجلودهم وقود النار، التي كمنت فيهم أولاً في حياتهم الدنيا، ثمَّ قويت شيئاً فشيئاً بإذابة كبريت الشهوات، وإضافة قوّة نار الحسد وضرام العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فتبرز غاية البروز، وتشتعل بهم غاية الاشتعال، فتبتدي من بواطنهم وقلوبهم، ثم تتعلّق بظواهرهم وجلودهم، وكلّما نضجت جلودُهم بدّلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، وهكذا يفعل الله بهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد