لما بيَّن الله لهم طريق الاهتداء إلى معرفة أحوال الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأرشدهم إلى قانون يعرف منه صحة ما جاء به من فساده، ويمتاز بذلك حقّه من باطله، أمرهم بتقوى النار المعدّة للكفار. معناه: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم وأعوانكم من فصحاء العرب وبلغائهم مع كثرة عددهم كحصىٰ البطحاء، وتبيّن لكم عجْزكم وعجْز غيركم، وعلِمتم أنّ الإتيان ببعض قليل منه ليس في مقدرة البشر، فلا تقيموا على التكذيب به والإعراض عنه، فاتّقوا النار واحذروا أن تَصْلَوْهَا بتكذيبكم للحقّ وإعراضكم عن الحقّ. وعامِل الجزم في " تَفْعَلُوا " " لَمْ " - دون " إنْ " - لأنّها الأصل فيه، واجبة الإعمال، مختصّة بالمضارع، متّصلة بمعمولها؛ ولأنّها لما صيّرته ماضياً صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع، وكأنّه قال: " فإن تركتم الفعل " ولذلك جاز اجتماعهما. وقوله: " وَلَن تَفْعَلُواْ " جملة اعتراضيّة لا محلّ لها من الإعراب، معناه: " ولن تأتوا بسورة من مثله أبداً " ، لأن: " لَنْ " نفي على التأبيد في المستقبل، أو على التأكيد فيه. وفيه مع ما مرّ في الآية السابقة، دلالة على حقيَّة النبوة من وجوه: أحدها: ما فيهما من التحدّي والتحريض على الجدّ، وبذل الوسع، وجمع العَدَد والعُدَد في المعارضة بالتقريع، والتحديد، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من القرآن؛ ثم إنّهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة، وتهالكهم على المضادّة، لم يتصدّوا لمعارضته، والتجأوا إلى جلاء الوطن والعشيرة، وبذل الأرواح والمهج؛ وهذا من أقوى الدلائل على اعجاز القرآن، لأنّهم - وهم فرسان اللسان -، لو كان في امكانهم ومقدرتهم الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه، لأتوا به، وحيث ما أتوا به ظهَر العجْز وعلِم المُعجِز. وثانيها: إنّه (صلى الله عليه وآله) وإن كان متّهماً عند الأشرار والكفّار فيما يتّصل بأمر النبوّة، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل وكمال الفضل والحزم في معرفة العواقب، فلو تطرّق الشك أو التهمة إلى ما ادّعاه من النبوّة، لما استجرء في دعواه، ولم تتبادر نفسه إلى أن يتحدّاهم بالغاً في التحدّي نهايته، وفي التقريع للخصوم غايته، بل كان خائفاً من وقوعه في فضيحة يعود وبالها على جميع أموره - حاشاه من ذلك (صلى الله عليه وآله) -، فلولا كان على بصيرة من أمره، وتثبُّت في قول ربّه، ومعرفة بعجزهم وأمثالهم عن المعارضة، لما اجترء على أن يحملهم على المعارضة بأبلغ وجه وآكده. وثالثها: إنّه [لو] لم يكن قاطعاً بصحَّة نبوَّته، لما قطَع في الخبر بأنّهم ونظرائهم من أفراد البشر، لن يأتوا أبداً بمثل القرآن، فإنّ الشاكّ المجوِّز لوقوع خلاف ما ادّعاه، لا يقطع في الكلام هذا المبلغ، مخافة أن يظهر خلاف دعواه، فتدحض حجته، وقد أوجد الله مصداق ما أخبره ومطابق ما وعده رسوله، حيث إنّه من أوان رسالته (صلى الله عليه وآله) إلى هذا العصر، لم يخلُ وقت من الأوقات من أعادي الدين وخصماء الإسلام، ومن يشتدّ دواعيه في الوقيعة فيه والإطفاء لنوره.