الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ }

اعلم أن الله سبحانه، لمَّا أقام الدلائل الباهرة والحجج القاهرة على اثبات التوحيد وتحقيقه، وإبطال الإشراك، وهدم قواعد الأنداد والأعداد، وعرَّف العقول بأنّ من أشرك فقط عطَّل ميزان عقله عن الاستعمال، وباع رأس مال فطرته باتِّباع الأرذال وتقليد الجهّال، وغطّى ما أنعم الله عليه من نور العقل والتمييز بظلمات الوهم والخيال، عطف على ذلك ما هو الحجّة على إثبات النبوّة لنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله)، المبعوث على كافَّة البريَّة، وما يدحض به الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم ما يلجئهم إلى الاعتراف بذلك.

وإلاّ فقد حرّم الله تعالى شرب ماء حياة القرآن، وذوق مشارب الإيمان وحقائق العرفان على أهل هذه الظلمات ومقابر الأموات، والراقدين في مراقد الجهالات، فإنّه تعالى قد جعَل إعراض المعرِضين عن مطالعة كتابه، واعتراض المعترضين على سيِّد أحبّائه حجاباً من حُجب غيرته، وسرادقاً من سرادقات عزّته لحبيبه المرسَل وكتابه المنزَل؛ فلا يشاهِد المعرِضون عن الله حبيبه، ولا يطالِع المعترضون على الله كتابه.

فلم يزدْهم بيان النبي (صلى الله عليه وآله) وإعجاز القرآن إلاّ ريباً على ريباً وخساراً على خسار؛ كما قال الله تعالى:وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس:101].

فلمّا حُجِبوا عن مشاهدة أنوار الحبيب، ومُنعوا عن مطالعة آيات الكتاب، أقام عليهم الحجَّة البيِّنة إعلاماً لبُعدهم عن المحجَّة، وايذاناً بانحرافهم عن الصراط المستقيم، وتنكُّبهم عن الطريق القويم، وأراهم كيف يتعرَّفون ما أتى به عبدُه؛ أهو من عند الله - كما يدّعي -، أم هو من عند نفسه - كما يدّعون -.

ونفوس البشر - بما هي نفوس البشر - متماثِلةٌ، وإنّما التفاوت والتفاضل بأمور أُخرويَّة فائضة عليها من الله، فلو كانت النبوّة كسبيّة، أو كان القرآن آلفاظاً تأليفيّة، لمَاع عجَزوا عن آخرهم عن اكتسابها ومعارضته.

فأرشدهم إلى أن يجرِّبوا أنفسهم، ويمتحنوا أذواق طباعهم - وهم أبناء جنسه وأهل جِلْدته -، هل يقدرون على الإتيان بمثل ما أتى به؟ وإن كانوا من مصاقع الخطباء من العرَب العرْباءِ، مع كثرتهم وإفراطهم في المضادَّة والمضارَّة، وتهالُكهم على المعازَّة والمعارَّة؛ فعرَّفهم ما يتعرف به اعجازه، ويتيقَّن أنّه من عند الله كما يدّعيه عبده.

وإنّما سمّاه " عبداً " مطلقاً مقيّداً بـ " هـ " ولم يسمّ غيره من الأنبياء عليهم السلام إلاّ بالعبد المقيّد المقرون باسمه - كما قال:وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } [ص:41]وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ص:17]. وغيرهما -، وذلك لأنّ كمال العبوديّة ما تهيّأ لأحد من العالمين إلا لحبيبه - صلوات الله عليه وآله -، لأنّه يحصل في كمال الحريّة عما سوى الله بقطع منازل الخلٌْ والأمْر كلها، وطيِّ معارج الملك والملكوت، والخروج عن مكامن أطوار الإنيَّة ومطاوي أستار الأنانيَّة، إلى فضاء مشاهدة الأحديّة وعرصة القيامة اللاهوتيّة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد