الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

إعلم أن في هذه الآية نكات لطيفة، ومسائل غامضة، وعلوماً شريفة، وحِكماً عقلية، وأنواراً إلهية، وأسراراً ربوبية:

أما النكات:

فأولاها: إن من عادة الله سبحانه في هذا الكتاب، أن يخاطب جمهور المكلّفين بـ " يا أيّها الناس " ، وأهل المعرفة والإيمان منهم بـ " يا أيّها الذين آمنوا " ، وأهل الولاية والقرب بـ " يا عبادي " ، تنبيهاً على تفاوت الدرجات، وتباين الرتب والمقامات؛ فإنّ لنوع الإنسان درجات متفاوتة في الحقيقة والذات عند أهل الشهود.

فمن الناس من هو في طبقة النفس الحيوانية، إلاّ أنه قابل للترقّي بالتكليف - وهم أكثر الناس -، ومنهم مَن تجاوزها وبلغ حدود النفس الناطقة، - وهم العلماء - ومنهم من بلغ إلى مرتبة العقل بالفعل، - وهم عباد الله الربّانيون -، فهذا الخطاب متوجّه إلى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم - إلاّ من هو خارج عن حدود التكليف من الأطفال والمجانين، لأن حالهم أنزل من حال الحيوان الغير المكلَّف.

ويؤيِّد ذلك، ما روي عن ابن عباس والحسن: إن ما في القرآن من: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } فإنه نزل بمكَّة، وما فيه من: { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فإنه نزل بالمدينة.

وذلك لا يوجب تخصيص الخطاب بالكفّار والجاهلين، ولا أمرهم بالعبادة دون غيرهم، فإنّ الأمر متوجّه إلى الكل ما داموا في دار التكليف، لعدم خلوّهم عن نفس حيواينة حَريّةٍ للحمل والتكليف والرياضة والتأديب، وإلاّ لجَمحت.

والمأمور به، هو المشترك بين بدء العبادة وزيادتها، والمواظبة عليها وأصلها وكيفيّتها، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها، بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع، فإن من لوازم وجوب الشيء مطلقاً، وجوب ما لا يتمُّ الواجب المطلق إلاّ به وكان مقدوراً، وكما أن تحقّق الحدَث لا يمنع وجوب الصلاة، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه، والمطلوب من المؤمنين ازديادهم كمّاً وكيفاً فيها، وثباتهم ودوامهم عليها.

وثانيها: إن الله تعالى لمّا قدَّم أحكام فِرق المكلفين من المؤمنين والكفّار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأفعالهم البدنيّة والقلبيّة، ومجاري أمورهم العاجليّة والآجليّة، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من جملة الإلتفات التي تورِث الكلام رونقاً وبهاء، وتزيد السامع هزة ونشاطاً.

وما يختصّ منه بهذا المقام من اللطائف؛ إنه كما انك تشكو من أحد - مخاطباً لصاحبك -: " إن فلاناً فعل كذا وكذا " ، ثم تتوجّه إليه مخاطباً إيّاه: " يا فلان ألزم الطريقة الحسنة، واكتسب السيرة المرضيّة " ، فهذا الانتقال منك، والالتفات من الغيبة إلى مواجهة المقال، يؤثّر في قلبه ما لا يؤثّر فيه استمرارك على لفظ الغيبة.

ومنها: كأنّه تعالى يقول: إنّي قد جعلت واسطة بيني وبينك أوّلاً، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلّة شرف المخاطبة والمكالمة، وفيه إشعار بأنّه لنفوذ نوره ورحمته، أقرب من كل قريب بالشخص - وإن كان الشخص بعيداً منه لحجابه -.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد