الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قد مثّل الله تعالى حال المنافقين والكافرين بهذين التمثيلين باعتبار فساد القوّتين.

أما التمثيل الأول، فهو باعتبار فساد قوّتهم العلميّة التي من شأنها مشاهدة أنوار الحقائق، وأما هذا التمثيل، فهو باعتبار بطلان قوّتهم العمليّة التي من شأنها سلوك طريق الحقّ بها.

فقوله: { كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } إمّا عطف على: الذي استوقد أي كمثَل ذوي صيّبِ، بقرينة قوله { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } أو عطف على المثَل، أي مثَلهم وحالهم كصيّب، فلا بدَ من تقدير ضمير يعود إليه.

وكلمة " أو " في الأصل، للتساوي في الشكّ، ثم اتّسع فيها فاستعمل للتساوي من غير شكٍّ، مثْل جالِس الحسَن أو ابن سيرين، ومنه قوله تعالى:وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان:24]. والمراد منع الخلوّ دون منع الجمع، فالمعنى: أن قصة المنافقين مشبّهة بهاتين القصّتين، وأنّهما سواء في صحّة التشبيه بهما باعتبار الجهتين، وأنت مخيّر في التمثيل بهما جميعاً، أو بأيّهما شئت، وكان الممثّل له في التمثيل الأول، حال المنافقين المنتسبين بأهل العلم لحفظ ظواهر الأقوال، المغترّين بإبداء الشبهات، وهم الذين إذا جاءتهم البيّنات يفرحون بما عندهم من العلْم. وفي هذا التمثيل حال المنافقين الذين هم من أهل النسْك وأهل التقليد من غير بصيرة تامّة وإياهما عُني في قوله صلّى الله عليه وآله: " قصم ظهرْي رجُلان عالِمٌ متهتّك وجاهلٌ متنسّك ".

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: قطَع ظهري رجُلان من الدنيا: رجلٌ عليمُ اللّسان فاسقٌ، ورجلٌ جاهلُ القلْب ناسكٌ، هذا يصدّ بلسانه عن فسقه، وهذا بنسْكه عن جهْلِه، فاتّقوا الفاسق من العلماءِ والجاهلَ من المتعبّدين، أولئك فتنة كل مفتون... "

فوجه المماثلة هٰهنا؛ أن المراد من المطَر هو الإيمان، أو القرآن لكونه منشأ الحياة المعنويّة والأرزاق الأخرويّة. والظلمات هي الشبهات والمتشابهات التي يخفى وجهها على الجهّال والأرذال ويضلّون في إدراكها، كما قال:يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [البقرة:26].

والرعْد والبرْق والصواعق، هي التكاليف الشاقّة، بعضها من باب الأعمال وبعضها من باب الاعتقادات، كفعل الصلاة وال صيام والحجّ، وترك الرياسات، والمجاهدة مع الآباء والأمّهات، وترك الأديان القديمة، والاعتقاد بحقّية هذا الدين والانقياد له.

فكما أن الإنسان يبالغ في الإحتراز عن المطر الصيّب، الذي هو أشدّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافق الجاهل، يحترز عن الإيمان أو القرآن بسبب هذه الأمور، زعماً منه أن الغرض منها ايلامه وتخويفه وتشديد الأمر عليه، بحيث تكاد توجب هلاكه، ولم يعلم أن فيها شفاءً لما في الصدور، وتنويراً للقلوب، وإحياءً للنفوس المريضة بداء الجهالة، ورحمةً للذين آمنوا، وهدى للعالمين.

والمراد من قوله: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أنّ الجاهل المنافق كثيراً ما يتصامَم عن ذكر الآيات والحجَج والبيّنات، حذراً عن سماع ما يوجب فساد عاقبتهم، ويظهر عليهم مآل ما هم عليه من النفاق والفسْقِ ولا يعلم السفيه الأحمق أن التصامم والتعامي لا يدفع الداهية والموت، كما أنّ الصاعقة لو أتت إلى شخصٍ لا يمكن له دفعها بجعل إصبعيه في أذنيه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10