الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

تحقيق الآية يستدعي تمهيد مقدّمات.

إحداها: هي إن العوالم متطابقة والنشآت متحاذية، نسبة الأعلى إلى الأدنى كنسبة الصافي إلى الكدر، ونسبة اللبّ الى القشر. ونسبة الأدنى إلى الأعلى كنسبة الفرع إلى الأصل، ونسبة الظلّ إلى الشخص، ونسبة الشخص إلى الطبيعة، ونسبة المثال إلى الحقيقة.

فكلّ ما في الدنيا لا بدّ له في الآخرة من أصل، وإلاّ لكان كسراب باطل وخيال عاطل، وكلّ ما في الآخرة لا بدّ له في الدنيا من مثال، وإلاّ لكان كمقدّمة بلا نتيجة وشجرة بلا ثمرة، وعلّة بلا معلول، وجواد بلا جود، لأنّ الدنيا عالم الملك والشهادة، والآخرة من عالم الغيب والملكوت، ولكلّ إنسان دنياً وآخرة، وأعني بدنياك: حالتك قبل الموت، وبآخرتك: حالتك بعد الموت.

فدنياك وآخرتك، من جملة أحوالك ودرجاتك، يسمّى القريب الداني منها دنياً، وما بعده المتأخّر آخرة، وكون الدنيا متقدّمة على الآخرة، ليس بحسب الأمر في ذاته، بل بالإضافة إلينا، من جهة أنّ الإنسان أول ما يحدث، يكون في عالم الحسّ والشهادة، ثمّ يتدرّج قليلاً قليلاً في قوّة الوجود، حتى ينتقل من هذا العالم إلى عالم الغيب والآخرة عند قيامة.

فبالقياس إليه، تكون الدنيا أولاه والآخرة أخراه، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في رتبة الوجود، وثانيةٌ لها، وهي وإن كانت ثانية في رتبة الوجود؛ فإنّها أول في حقّ رؤيتك؛ فإنك لا ترى نفسك، وترى صورتك في المرآة أولاً، فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة، وانقلب المتأخر متقدماً.

وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس، ضرورة هذا العالم، وكذلك عالم الشهادة محال لعالم الغيب والملكوت.

ومن الناس من يُسرّ له نظر الإعتبار، فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلاّ ويَعْبُرُ به إلى عالم الملكوت، فيسمى عبوره عبرة؛ وقد أمر الخلق به، قال سبحانه:فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [الحشر:2] ومنهم من عميت بصيرته فلم يعبر، فاحتبس في عالم الملك والشهادة، وتنفتح إلى حبسه أبواب جهنّم، وهذا الحبس ممتلئ ناراً شأنها أن تطّلع على الأفئدة، إلا أن بينه وبين إدراك الَمِها حجابٌ، فإذا رُفع الحجاب بالموت، أدرك.

وعن هذا أظهر الله الحقّ على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا: الجنّة والنار مخلوقتان. ثمّ إنّا نحن الآن: نتكلّم أو نخاطب في الدنيا مَن في الآخرة.

والغرض من إنزال القرآن، أكثره شرح أحوال الآخرة، وخصوصاً في هذه الآية، فإنّ الغرض شرح أحوال طائفة من المنافقين بحسب باطنهم وآخرتهم، والآخرة من عالم الملكوت، ولا يتصوّر شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال، ولذلك قال سبحانه:وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد