الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

تحقيق الآية يبتني على مقدّمات:

إحداها: أن الإنسان ما دام كونه الدنيوي بمنزلة مسافر يسافر للتجارة، أما كونه مسافراً، فأمر قد جُبل عليه كل ما هو متعلق الوجود بالطبيعة الجمسانية والكون الدنيوي، إذ قد حقّق في مقامه بالبرهان الذي لاح لنا بفضل الله، أن الطبائع الجسمانية أبداً في التحول والانتقال والتجدّد والزوال من حال الى حال، استحالة جوهرية وانتقالاً ذاتياً وتوجهاً جِبلّياً الى نشأة اخرى، وأما كونه تاجراً فممّا فيه لاختياره مدخل، إذ الفائز بسعادة الربح الأخروي، إنما يفوز به بأعمال صحالة اختارية، والممنوّ بشقاوة الخسران الأبدي، إنما يبتلى به بأعمال فاسدة اختارية، كما قال تعالى:جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة:95]. وقوله:فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى:30]. وقوله:فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة:7-8].

المقدمة الثانية: انه لما كان كل مسافر للتجارة لا بدّ له من رأس مال، وقد ثبت أن الإنسان مسافر للتجارة، فلا بدّ له من رأس مال، ورأس ماله هو الفطرة الأصلية التي قد فطره الله عليها، وهي القوة الاستعدادية لأجل الوصول الى الدرجات العاليات، والفوز بالمنازل والسعادات، وهذه القوة الفطرية، هي المعبّر عنها في هذه الآية بالهدىٰ، إذ الهدىٰ عبارة عن كون السالك على الطريق الذي يؤدي الى مطلوبه ويقابله الضلال، وهو كونه جائراً منحرفاً عن ذلك الطريق، فعلىٰ ما فسّرنا الهدىٰ به، ليس لأحد أن يقول: كيف اشترَوا الضلالة بالهدى، وما كانوا على هدى قطّ؟

لأن كل واحد من الناس، في أول نشأته وحداثة وجوده على رأس الطريق منه الى الله، فهو على هدى بحسب الفكرة، وإنما يقع الجور بحسب ما يكتسبه من الأفعال والاعتقادات، كما ورد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): " كل مولود يولَد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ".

المقدمة الثالثة: أنّ الربح والخسران ليسا بأمرين عارضين لغاية هذا السفر، ممكنَي الانفكاك عن منازل هذه الحركة، بل الوصول الى كل منزل من منازل الآخرة يلزمه ما يخصّه من ربح أو خسران، أو نعيم أو حرمان، أو راحة أو عذاب، بل الربح هنا بنفس الوصول الى المنزل الأسنى والمقام الأعلى، وكذا الخسران بنفس الوصول الى الهوى الأدنى.

سُئل بعض أهل الله عن عذاب القبر، فقال: القبر كلّه عذاب، إشارة الى أن العذاب عبارة عن الانحباس في مضيق البرازخ السفلية، والتقيّد بقيود المؤذيات الحيوانية، والتألّم بآلام العقارب والحيّات النفسانية، كما أنّ النعيم والراحة بالخلاص عنها والفوز بالدرجات العاليات، لأن ما فيها كلّه رَوْح وريحان وجنة ورضوان، وما في البرازخ السفلية كلّه آلام ومحن ومؤذيات وعقارب وحيّات وسموم ونيران وحميم وزقّوم.

فإذا تقررت هذه المقدمات، فنقول: قد حكى الله تعالى عن المنافقين والمغترين بلوامع سراب الدنيا من أهل الكتاب وغيرهم، الذين تفقّهوا لغير الدين، وعملوا بغير عمل أهل اليقين، طلباً للحطام ومصيدة للعوام؛ بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا الآخرة بالأولى والدرر الفاخرة بالثمن الأوكس الأدنى، واستبدلوها به حيث إنهم أخلّوا بالهدى الذي جعلهم الله في أصل الفطرة التي فطر الناس عليها، محصّلين الضلالة التي ذهبوا اليها، واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى، فجاورا عن القصد وفقدوا الاهتداء.

السابقالتالي
2