الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }

(كم) لفظة موضوعة للتكثير و (رب) للتقليل. وانما كان كذلك، لان (رب) حرف، و (كم) اسم. والتقليل ضرب من النفي و (كم) تدخل في الخبر بمعنى التكثير. فأما في الاستفهام، فلا، لان الاستفهام موكول الى بيان المجيب والخبر الى بيان المخبر، وانما دخلها التكثير، لان استبهام العدد ان يظهر او يضبط انما يكون لكثرته في غالب الامر، فـ (كم) مبهمة قال الفرزدق:
كم عمة لك يا جرير وخالة   فدعاء قد حلبت عليَّ عشاري
فدل بـ (كم) على كثرة العمات، وموضع (كم) في الآية رفع بالابتداء وخبرها (أهلكناها) ولو جعلت في موضع نصب جاز، كقولهإنا كل شيء خلقناه بقدر } والاول أجود.

اخبر الله تعالى - على وجه الترهيب للكفار والايعاد لهم - أنه اهلك كثيرا من القرى، يعني أهلها بما ارتكبوه من معاصيه، والكفر به، وانه أنزل عليهم بأسه، يعني عذابه { بيانا } يعني في الليل { أو هم قائلون } يعني في وقت القيلولة، وهو نصف النهار. وأصله الراحة، فمعنى أقلته البيع أرحته منه باعفائي اياه من عقده، وقلت اذا استرحت الى النوم، في وسط النهار: القائلة. والاخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة فلذلك خص الوقتين بالذكر.

وقيل في دخول الفاء في قوله { فجاءها بأسنا بياتا } ثلاثة أقوال:

أحدها - أهلكناها في حكمنا { فجاءها بأسنا } وقد قيل: هو مثل زرني واكرمني فان نفس الاكرام هي الزيارة، قال الرماني: وليس هذا مثل ذلك، لان هذا انما جاز لانه قصد الزيارة. ثم الاكرام بها.

والثاني - قال قوم { أهلكناها فجاءها بأسنا } أي فكان صفة اهلاكنا أن جاءهم بأسنا.

والثالث - أهلكناها فصح انه جاءها بأسنا. وقال الفراء الفاء بمعنى الواو، وقال الرماني: هذا لا يجوز، لانه نقل للحرف عن معناه بغير دليل. وقال بعضهم: ان المعنى أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة على المعصية، وهذا لا يجوز لانه ليس من صفة الحكيم ان يمنع من طاعته حتى تقع المعصية، ثم يعاقب عليها.

وقوله { أو هم قائلون } قال الفراء: واو الحال مقدرة فيه، وتقديره أو { وهم قائلون } وانما حذفت استخفافا. وقال الزجاج وجميع البصريين لا يحتاج الى ذلك، لانه يستغني برجوع الذكر عن الواو، كما يقال: جاءني زيد راجلا او هو فارس، او جاءني زيد هو فارس لم يحتج الى واو، لان الذكر قد عاد على الاول.

فمعنى الآية ان الله اهلك اهل قريات كثيرة بتمردهم في المعاصي، وحذر من ان يعمل مثل عملهم فينزل بالعامل مثل ما نزل بهم.