الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }

معنى { ذرأنا } خلقنا يقال: ذرأهم يذرأهم واللام في { لجهنم } لام العاقبة. والمعنى انه لما كانوا يصيرون اليها بسوء اختيارهم وقبح أعمالهم جاز أن يقال: إنه ذرأهم لها والذي يدل على ان ذلك جزاء على اعمالهم قوله { لهم قلوب لا يفقهون بها } وأخبر عن ضلالهم الذي يصيرون به إلى النار، وهو مثل قوله تعالىإنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } ومثل قولهربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } ومثل قوله عز وجلفالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } وإنما التقطوه ليكون قرة عين كما قالت امرأة فرعون عند التقاطهقرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا او نتخذه ولداً } ومثله قول القائل: اعددت هذه الخشبة ليميل الحائط فاسنده بها وهولا يريد ميل الحائط. ومثله قول الشاعر:
وللموت تغذو الوالدات سخالها   كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال الآخر:
اموالنا لذوي الميراث نجمعها   ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال الآخر:
وام سماك فلا تجزعي   فللموت ما تلد الوالدة
وقال آخر:
لدوا للموت وابنوا للخراب   فكلكم يصير إلى ذهاب
وقوله { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } معناه انهم لما لم يفقهوا بقلوبهم ولم يسمعوا بآذانهم ولم يبصروا بعيونهم ما كانوا يؤمرون به ويدعون اليه سموا بكما عمياً صماً. ولما لم ينتفعوا بجوارحهم اشبهوا العمي البكم الصم، لان هؤلاء لا ينتفعون بجوارحهم فأشبهوهم في زوال الانتفاع بالجوارح وسموا باسمائهم، ومثله قول مسكين الدارمي:
أعمي اذا ما جارتي خرجت   حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما   سمعي وما بي غيره وقر
فجعل نفسه اصماً واعمى لما لم ينظر ولم يسمع وقال آخر:
وكلام سيء قد وقرت   أذني عنه ومابي من صمم
وقال آخر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به   وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وهذا كثير. ويجوز أن يكون قوله تعالى { ذرأنا لجهنم } معناه ميزنا.

ويقال: ذرأت الطعام والشعير أي ميزت ذلك من التبن والمدر، فلما كان الله تعالى قد ميز اهل النار من اهل الجنة في الدنيا بالتسمية والحكم والشهادة جاز ان يقول ذرأناهم اي ميزناهم. ثم وصفهم بصفة تخالف اوصاف اهل الجنة يعرفون بها فقال { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى آخرها.

ويجوز ان يكون قوله { ذرأنا } بمعنى سنذرأ كما قال:ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } بمعنى سينادون، فكأنه قال سيخلقهم خلقاً ثانياً للنار بأعمالهم التي تقدمت منهم في الدنيا إذ كانوا استحقوا النار بتلك الاعمال. ولا يجوز أن يكون معنى الاية إن الله خلقهم لجهنم واراد منهم ان يفعلوا المعاصي فيدخلوا بها النار، لأن الله تعالى لا يريد القبيح، لأن إرادة القبيح قبيحة، ولان مريد القبيح منقوص عند العقلاء تعالى الله عن صفة النقص، ولأنه قال

السابقالتالي
2