الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } * { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

قرأ ابن عامر وابو جعفر، وورش { فتحنا } وفي الاعراف { لفتحنا } وفي الانبياء { فتحت } وفى القمر { ففتحنا أبواب السماء } بالتشديد فيهن، وافقهم روح في الانبياء والقمر. والباقون بالتخفيف فيهن.

ومن ثقل أراد التكثير، ومن خفف أراد الفعل مرة واحدة.

بين الله تعالى بهذه الآية ان هؤلاء الكفار لما لم ينتفعوا بالبأساء والضراء على ما اقتضت مصلحتهم، ونسوها أي تركوها فصارت في حكم المنسى ابتليناهم بالتوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة، وينبهوا عليه، فيطيعوا ويرجعوا عما هم عليه، فلما لم ينجع ذلك فيهم ولم يرتدعوا عن الفرح بما أوتوا، ولم يتَّعظوا ولم ينفعهم الزجر بالضراء والسراء، ولا الترغيب بالتوسعة والرخاء احللنا بهم العقوبة بغتة أي مفاجأة من حيث لا يشعرون { فإذا هم مبلسون }. قال الزجاج: (المبلس) الشديد الحسرة و (البائس) الحزين. وقال البلخي: معنى مبلسون يعني: أذلة خاضعين. وقال الجبائي: معنى { مبلسون } آيسون، وقال الفراء المبلس: المنقطع الحجة، قال رؤبة:
وحضرت يوم خميس الاخماس   وفى الوجوه صفرة وابلاس
وقال مجاهد: الابلاس السكوت مع اكتآب.

وقوله { كل شيء } المراد به التكثير دون العموم، وهو مثل قولهوأوتيت من كل شيء } وكقول القائل: أكلنا عنده كل شىء ورأينا منه كل خير، وكما يقال هذا قول اهل العراق، واهل الحجاز، ويراد به قول اكثرهم. وقال تعالى:ولقد أريناه آياتنا كلها } وكل ذلك يراد به الخصوص، وموضوعه التكثير، والتفخيم. واذا علمنا في الجملة بالعقل ان هذه الآيات مخصوصة، فلا ينبغي ان يعتقد فيها تخصيص شىء بعينه، وليس علينا اكثر من ان نعتقد أنهم اوتوا خيرا كثيرا، وفتح عليهم أبواب أشياء كثيرة كانت متغلقة عليهم، وليس يلزمنا اكثر من ذلك.

فان قيل الذي يسبق الى القلوب غير ما تأولتم عليه وهو ان الله انما فتح عليهم أبواب كل شىء ليفرحوا ويمرحوا ليستحقوا العقاب.

قلنا: الظاهر وان كان كذلك انصرفنا عنه بدليل، كما انصرفنا عنه قوله:الرحمن على العرش أستوى } وعن قولهوجاء ربك } وعن قوله:أأمنتم من في السماء } فكما يجب ان نترك ظاهر هذه الآيات وان كان ظاهرها التشبيه فكذلك ترك ما ظاهره يوجب اضافة القبيح اليه وينافى عدله ويعدل الى ما يليق بحكمته وعدله.

وقوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } معناه أخذهم الذي يدبرهم ويدبرهم، لغتان - بضم الباء وكسرها - وهو الذي يكون في أعقابهم.

وروي عن أبي عبد الله (ع) انه قال: من الناس من لا يأتي الصلاة إِلا دبريا - بضم الدال - يعني في آخر الوقت، هذا قول اصحاب الحديث. وقال أبو زيد الا دبريا بفتح الدال والباء. ثم حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل ساقتهم وقطع دابرهم بقوله { والحمد لله رب العالمين } لانه تعالى أرسل اليهم وانظرهم بعد كفرهم وأخذهم بالبأساء والضراء، والنعمة والرخاء، فبالغ في الانذار والامهال، فهو محمود على كل حال.