الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }

معنى هذه الآية ان الحجاج بأن الطريق الموصل الى صحة مذهبهم غير منسدٍّ اذ لم يثبت من جهة حجة عقل ولا سمع. وما لم يصح ان يثبت من أحد هذين الوجهين باطل لا محالة، لان ما لا يصح ان يعلم فاسد لا محالة.

امر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) ان يقول لهؤلاء الكفار الذين تقدم وصفهم " هلموا " ومعناه هاتوا. وهلم كلمة موضوعة للجماعة بني مع (ها) فصار بمنزلة الصوت نحو (صه) قال الاعشى:
وكان دعا قومه دعوة   هلمَّ الى أمركم قد صُرِم
ومن قال: هلموا، فانه لم يبنه مع (ها) بل قدره على الانفصال. والاول أفصح، لانها لغة القرآن، وهي لغة اهل الحجاز. واهل نجد يقولون: هلم وهلما وهلموا وهلمي وهلميا وهلمن، قال سيبويه أصله (ها) ضم اليه (لم) فبني فقيل: هلم، وهات فصل ولم يتصل بما يبنى معه، فلذلك لا بد ان يقال للجماعة: هاتوا. و (هلم) لفظ يتعدى تارة، واخرى لا يتعدى، فاذا كانت بمعنى (هاتوا) فانها تتعدى مثل قوله { هلمَّ شهداءكم } واذا كانت بمعنى (تعالوا) نحوهلم إلينا } فانها لا تتعدى ونظيره: عليك زيدا يتعد الى واحد، وعليَّ زيدا يتعدى الى اثنين بمعنى أولني زيدا، ومثله من الفعل: رجع ورجعته، ولا يجوز في (هلم) الضم والكسر، كما يجوز في وَرُد: وَرَد. قال الزجاج: لانها لا تتصرف على طريقة: فَعَل يَفعَل، مع ما اتصلت بها من هاء.

ومعنى الآية هاتوا شهداءكم الذين يشهدون بصحة ما تَّدعون من ان الله حرم هذا الذي ذكرتموه. وقوله { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } فان قيل كيف دعاهم الى الشهادة مع أنهم اذا شهدوا لم تقبل شهادتهم؟؟!

قلنا عنه جوابان أحدهما - قال ابو علي: لانهم لم يشهدوا على الوجه دعوا ان يُشهِدوا بيِّنة عادلة تقوم بها الحجة.

الثاني - شهداء من غيرهم، ولن يجدوا ذلك، ولو وجدوه ما وجب قبول شهاداتهم، لانها لا ترجع الا الى دعوى مجردة. ولكن المذهب مع هذه الحال أبعد عن الصواب، لانهم لا يجدون من يشهد لهم. وهو قول الحسن.

وقوله { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } نهى من الله لنبيه والمراد به أمته ان يعتقدوا مذهب من اعتقد مذهبه هوى، ويمكن اتخاذ المذهب هوى من وجوه.

احدها - هوى من سبق اليه فقلده فيه.

والثاني - ان يدخل عليه شبهة فيتخيَّله بصورة الصحيح مع ان في عقله ما يمنع منه. ومنها - ان يقطع النظر دون غايته، للمشقة التي تلحقه فيعتقد المذهب الفاسد. ومنها - ان يكون نشأ على شيء وألفه واعتاده فيصعب عليه مفارقته. وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله.

وانما قال { الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة } وكلهم كفار ليفصل وجوه كفرهم، لان منه ما يكون مع الاقرار بالآخرة كحال اهل الكتاب، ومنه ما يكون مع الانكار كحال عبدة الاوثان. وقوله { وهم بربهم يعدلون } معناه يعدلون به عن الحق لاتخاذهم مع الله شركاء واضافتهم اليه ما لم يقله وافترائهم عليه.

وفي الآية دلالة على فساد التقليد لانه لو كان التقليد جائزا لما طالب الله الكفار بالحجة على صحة مذهبهم، ولما كان عجزهم عن الايتان بها دلالة على بطلان ما ذهبوا اليه.