الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

في هذه الآية دلالة واضحة على انه تعالى لا يرى بالابصار، لانه تمدح بنفي الادراك عن نفسه. وكلما كان نفيه مدحا غير متفضل به فاثباته لا يكون الا نقصا، والنقص لا يليق به تعالى. فاذا ثبت انه لا يجوز ادراكه، ولا رؤيته، وهذه الجملة تحتاج الى بيان اشياء:

احدها - انه تعالى تمدح بالآية.

والثاني - ان الادراك هو الرؤية.

والثالث - ان كلما كان نفيه مدحا لا يكون اثباته الا نقصا. والذي يدل على تمدحه شيآن:

احدهما - اجماع الامة، فانه لا خلاف بينهم في انه تعالى تمدح بهذه الآية، فقولنا: تمدح بنفي الادراك عن نفسه لاستحالته عليه. وقال المخالف: تمدح لانه قادر على منع الابصار من رؤيته، فالاجماع حاصل على ان فيها مدحة.

والثاني - ان جميع الاوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة، فلا يجوز ان يتخلل ذلك ما ليس بمدحة. والذي يدل على ان الادراك يفيد الرؤية ان اهل اللغة لا يفرقون بين قولهم: ادركت ببصري شخصا، وآنست، واحسست ببصري. وانه يراد بذلك اجمع الرؤية. فلو جاز الخلاف في الادراك، لجاز الخلاف فيما عداها من الاقسام.

فاما الادراك في اللغة، فقد يكون بمعنى اللحوق، كقولهم: ادراك قتادة الحسن. ويكون بمعنى النضج، كقولهم ادركت الثمرة، وادركت القدر، وادرك الغلام اذا بلغ حال الرجال. وأيضا فان الادراك اذا اضيف الى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة. فيه ألا ترى انهم يقولون: ادركته بأذني يريدون سمعته، وادركته بانفي يريدون شممته وادركته بفمي يريدون ذقته. وكذلك اذا قالوا: ادركته ببصري يريدون رأيته. واما قولهم ادركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع، ومع هذا ليس بمطلق بل هو مقيد، لان قولهم حرارة الميل تقييد لان الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة، ولو قال ادركت الميل ببصري لما استفيد به الا الرؤية. وقولهم ان الادراك هو الاحاطة باطل، لانه لو كان كذلك لقالوا: أدرك الجراب بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لاحاطة جميع ذلك بما فيه، والامر بخلاف ذلك. وقولهحتى إذا أدركه الغرق } فليس المراد به الاحاطة بل المعنى حتى اذا لحقه الغرق، كما يقولون أدركت فلانا اذا لحقته، ومثلهفلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إِنا لمدركون } أي لملحقون، والذي يدل على أن المدح اذا كان متعلقا بنفي فاثباته لا يكون الا نقصا، قولهلا تأخذه سنة ولا نوم } وقولهما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إِله } لما كان مدحا متعلقا بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصا.

فان قيل كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح من المعدومات والضمائر.

السابقالتالي
2