الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

يقول الله تعالى مخبراً { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } يعني فى الأمم الماضية (وكم) موضوعة للتكثير فى باب الخبر، وهي ضدّ (رب) لأنها للتقليل. ثم اخبر عن تلك الامم الماضية انه كان ما يجيئهم نبي من قبل الله إلا كانوا يستهزؤن به بمعنى يسخرون منه. فالاستهزاء إظهار خلاف الابطان استصغاراً او استحقاراً فالأمم الماضية كفرت بالانبياء واحتقروا ما أتوا به، وظنوا انه من المخاريق التي لا يعمل عليها لجهلهم وفرط عنادهم، فلذلك حملوا أنفسهم على الاستهزاء بهم، وهو عائد بالوبال عليهم.

فان قيل: لم بعث الله الأنبياء مع علمه بأنهم يستهزؤن بهم ولا يؤمنون عنده؟ قيل: يجوز أن يكون قوم آمنوا وإن قلوا. وإنما اخبر الله بالاستهزاء عن الاكثر، ولذلك قال فى موضعومن آمن وما آمن معه إلا قليل } وايضاً فكان يجوز ان يكون لولا إرسالهم لوقع منهم من المعاصي أضعاف ما وقع عند إرسالهم، فصار إرسالهم لطفاً فى كثير من القبائح، فلذلك وجب وحسن، على ان فى إرسالهم تمكينهم مما كلفوه، لأنه إذا كان هناك مصالح لا يمكنهم معرفتها إلا من جهة الرسل وجب على الله أن يبعث اليهم الرسل ليعرّفوهم تلك المصالح، فاذا لم يؤمنوا بهم وبما معهم من المصالح أتوا بالقبائح من قبل نفوسهم، والحجة قائمة عليهم

وقوله { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } اخبار منه تعالى انه اهلك الذين هم اشد بطشاً من هؤلاء المشركين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله، فلذلك قال { ومضى مثل الأولين } أي وهو مثل هؤلاء الباقين، ومعناه انكم قد سلكتم فى تكذيب الرسل مسلك من كان قبلكم فاحذروا أن ينزل بكم من الخزي ما نزل بهم. قال الحسن: أشد قوة من قومك. ثم قال { ولئن سألتهم } يعني الكفار { من خلق السماوات والأرض } بأن انشاءها واخترعها { ليقولن } أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا { خلقهن } يعني السموات والارض { العزيز } الذي لا يغالب ولا يقهر { العليم } بمصالح الخلق، وهو الله تعالى، لانهم لا يمكنهم أن يحلفوا فى ذلك على الاجسام والأوثان لظهور فساد ذلك، وليس في ذلك ما يدل على انهم كانوا عالمين بالله ضرورة، لانه لا يمتنع أن يكونوا عالمين بذلك استدلالا وإن دخلت علهيم شبهة فى انه يستحق العبادة، سواه. وقال الجبائي لا يمتنع أن يقولوا بذلك تقليداً لأنهم لو علموه ضرورة لعلموا أنه لا يجوز أن يعبد معه غيره وهو الذي يليق بمذهبنا في المواقاة.

ثم وصف العزيز العليم الخالق للسموات والارض فقال هو { الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلا } تسلكونها لكي تهتدوا إلى مقاصدكم فى اسفاركم. وقيل: معناه لتهتدوا إلى الحق فى الدين والاعتبار الذي جعل لكم بالنظر فيها.