الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } * { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } * { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ }

هذا حكاية من الله عن الكفار في الآخرة بعد ما شهدت عليهم ابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون من المعاصي في دار الدنيا أنهم يقولون { لجلودهم لم شهدتم علينا } منكرين عليهم إقامة تلك الشهادة. وقيل: اشتقاق الجلد من التقوية من قولهم: فلان يتجلد على كذا، وهو جلد أي قوي، فتقول جلودهم في الجواب عن ذلك { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } فالانطاق جعل القادر على الكلام ينطق إما بالالجاء إلى النطق أو الدعاء اليه. فهؤلاء يلجئهم الله إلى ان ينطقوا بالشهادة. والنطق إدارة اللسان في الفم بالكلام، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه ناطق، وإن وصف بأنه متكلم. ومعنى { أنطق كل شيء } أي كل شيء لا يمتنع منه النطق كالاعراض والموات، والفائدة في الاخبار عنهم بذلك التحذير من مثل حالهم في ما ينزل بهم من الفضيحة بشهادة جوارحهم عليهم بما كانوا يعملون من الفواحش. فلم يكن عندهم فى ذلك اكثر من هذا القول الذي لا ينفعهم وقال قوم: إن الجوارح تشهد عليهم حين يجحدون ما كان منهم.

وقوله { وهو خلقكم أول مرة } اخبار منه تعالى وخطاب لخلقه بأنه الذي خلقهم فى الابتداء { وإليه ترجعون } فى الآخرة إلى حيث لا يملك احد النهي والامر سواه.

وقوله { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } قال مجاهد { وما كنتم تستترون } أي تتقون. وقال السدي: معناه لم تكونوا في دار الدنيا تستخفون عن معاصي الله بتركها. وقيل: إن الآية نزلت في ثلاثة نفر تساروا، فقال بعضهم لبعض: أترى الله يسمع إسرارنا؟ وقال الفراء: معناه لم تكونوا تخافون ان تشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها ولم تكونوا تقدروا على الاستتار منها، ويكون على وجه التغيير أي ولم تكونوا تستترون منها.

وقوله { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } وصف لهؤلاء الكفار بأنهم ظنوا انه تعالى يخفى عليه أسرارهم ولا يعلمها، فبين الله بذلك جهلهم به تعالى، وانهم وإن علموه من جهة انه قادر غير عاجز وعالم بما فعلوا فاذا ظنوا انه يخفى عليه شيء منها فهو جاهل على الحقيقة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وفي قراءة عبد الله { ولكن زعمتم } قال الفراء: الزعم والظن يكونان بمعنى واحد وقد يختلفان.

ثم حكى ما يخاطبهم به فانه يقال لهم { وذلكم ظنكم } معاشر الكفار { الذي ظننتم بربكم أرداكم } أي اهلككم يقال: ردى فلن يردى إذا هلك قال الاعشى:
أفي الطوف خفت عليّ الردى   وكم من رد أهله لم يرم
وقوله { فأصبحتم من الخاسرين } معناه فظللتم من جملة من خسر فى تجارته لأنكم خسرتم الجنة وحصل لكم النار. ثم قال { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } قال البلخي: معناه فان يتخيروا المعاصي فالنار مصير لهم، وقال قوم: معناه وإن يصبروا فى الدنيا على المعاصي فالنار مثواهم { وإن يستعتبوا } - بضم الياء - قرأ به عمرو ومعناه إن طلب منهم العتبى لم يعتبوا أي لم يرجعوا ولم ينزعوا.

السابقالتالي
2