الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ الذي }: في موضع نصب، لأنه نعت لقوله: { ربكم } في قوله: { اعبدوا ربكم } وهي مثل الذي قبلها. فانهما جميعاً نعتان لـ { ربكم }.

فراشا: يعني مهاداً، أو وطاء. لا حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها. وتقديره: اعبدوا ربكم الخالق لكم والخالق للذين من قبلكم، الجاعل لكم الأرض فراشاً. فذكر بذلك عباده نعمه عليهم، وآلاءه لديهم، ليذكروا اياديه عندهم، فيثبتوا على طاعته تعطفاً منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ليتم نعمته، لعلهم يهتدون.

وسمّي السماء سماء لعلوها على الأرض، وعلو مكانها من خلقه وكل شيء كان فوق شيء فهو لما تحته سماء لذلك. وقيل لسقف البيت سماء لأنه فوقه.

وسمى السحاب سماء. ويقال: سمى فلان لفلان اذا أشرف له، وقصد نحوه عاليا عليه. قال الفرزدق:
سمونا لنجران اليماني واهله   ونجران أرض لم تديث مقاوله
وقال النابغة الذبياني:
سمت لي نظرة فرأيت منها   تحيت الخدر واضعة القرام
يريد بذلك أشرفت لي نظرة وبدت. وقال الزجاج: كل ما على الأرض فهو فهو بناء لامساك بعضه بعضاً، فيأمنوا بذلك سقوطها. فخلق السماء بلا عمد، وخلق الأرض بلا سند، يدل على توحيده وقدمه، لأن المحدث لا يقدر على مثل ذلك. وانما قابل بين السماء وبين الفراش لأمرين:

احدهما ـ ما حكاه أبو زيد: أن بنيان البيت سماؤه: وهو اعلاه؛ وكذلك بناؤه وانشد:
بنى السماء فسواها ببنيتها   ولم تمد باطناب ولا عمد
يريد (ببنيتها): علوها.

والثاني ـ أن سماء البيت لما كان قد يكون بناء وغير بناء: اذا كان من شعر او وبر، أو غيره قيل جعلها بناء ليدل على العبرة برفعها. وكانت المقابلة في الارض والسماء باحكام هذه بالفرش وتلك بالبناء.

وقوله: { من السماء } أي من ناحية السماء. قال الشاعر:
أمنك البرق أرقبه فهاجا   
أي من ناحيتك. فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة. وهي سقف على الأرض وانما ذكر السماء والأرض، فيما عد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن فيها أقواتهم، وأرزاقهم ومعايشهم، وبها قوام دنياهم. وأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما من أنواع النعم هو الذي يستحق العبادة والطاعة، والشكر. دون الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع وقوله: { وأنزل من السماء ماء }: يعني مطراً. فاخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم، وغروسهم ثمرات رزقا لهم، وغذاء وقوتاً، تنبيهاً على أنه هو الذي خلقهم، وأنه الذي يرزقهم ويكلفهم دون من جعلوه نداً وعدلا من الأوثان والآلهة، ثم زجرهم أن يجعلوا له نداً مع علمهم بان ذلك كما أخبرهم، وانه لا ندله ولا عدل. ولا لهم نافع ولا ضار، ولا خالق ولا رازق سواه بقوله: { فلا تجعلوا لله أنداداً }.

السابقالتالي
2