الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ }

المعنى:

معنى { اشتروا الضلالة بالهدى } استبدلوا، لأن أصل الشراء الاستبدال، وليس يقع في مثله إشكال، فأما قولهم: استبدل بالجارية غيرها، فلا يجوز أن يقال بدلاً منه: اشترى، لأنه يلتبس. والضلالة التي اشتروها بالهدى: كفرهم بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وجحدهم لنبوته استبدلوه بالايمان به، وهم وإن لم يقصدوا أن يضلوا بدلا من أن يهتدوا فقد قصدوا الكفر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بدلا من الايمان به، وذلك ضلال بدلا من هدى، فقد قصدوا الضلال بدلا من الهدى، وإن لم يقصدوه من وجه أنه ضلال. ولا يجوز أن يقول: قصدوا أن يضلوا. لأنه يوهم أنهم قصدوه من هذا الوجه، كما ينبىء علموا أنهم يضلون غير أنهم علموه من هذا الوجه، ويجوز قصدوا الضلال، وعلموا الضلال، لأنه لا ينبىء على هذا الوجه وإنما علموه، وقصدوه من وجه آخر، وهو جحدهم محمداً (صلى الله عليه وسلم) بدلا من التصديق به.

وقوله تعالى { فما أصبرهم على النار } الفاء معناها معنى الجواب، لأن الكلام المتقدم قد تضمن معنى من كان بهذه الصفة، { فما أصبرهم على النار } فعومل معاملة المعنى الذي تضمنه حتى كأنه قد لفظ به. والعجب لا يجوز على القديم تعالى، لأنه عالم بجميع الأشياء، لا يخفى عليه شيء. والتعجب يكون مما لا يعرف سببه. وإنما الغرض - من الآية - أن يدلنا على أن الكفار حلو محل من يتعجب منه، فهو تعجيب لنا منهم. وقد قيل في معنا { ما } في قوله { فما أصبرهم على النار } قولان:

أحدهما - قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: إنها للتعجب. والثاني - قال ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد والسدي: إنها للأستفهام. وقيل في معنا { أصبرهم } أربعة أقوال:

أحدها - ما أجرأهم على النار، ذهب اليه الحسن وقتادة. والثاني - قال مجاهد: ما أعملهم بأعمال أهل النار. وهو المروي عن أبي عبدالله (ع). والثالث - حكاه الزجاج: ما أبقاهم على النار، كما تقول: ما أصبره على الحبس. والرابع - ذكره الفراء: ما صبرهم على النار أي حبسهم عليها. وقال الكسائي: هو استفهام على وجه التعجب. قال أبوالعباس: المبرد: هذا حسن كأنه توبيخ لهم وتعجيب لنا، مثل قولك للذي وقع في هلكة ما اضطرك الى هذا، اذا كان غنياً عن التعرض للوقوع في مثلها. يقال: أصبرت السبع، والرجل، ونحوه اذا نصبته لما يكره. وقال الحطيئة:
قلتُ لها أصبرُها جاهداً   ويحك أمثال طريف قليل
معناه ألزمها، واضطرها. فأما التعجب، فمثل قولهقتل الإنسان ما أكفره } أي قد حلّ محل ما يتعجب منه. وقيل: ما أصبرك على كذا بمعنى ما أجرأك قال أبوعبيدة: هي لغة يمانية.

واشتق أصبر بمعنى أجرأ من الصبر الذي هو حبس النفس، لأن بالجرءة يصبر على الشدة. فأما القول الآخر: فحبسوا أنفسهم على عمل أهل النار، بدوامهم عليه، وانهماكهم فيه. وحكى الكسائي عن قاضي اليمن عن بعض العرب، قال لخصمه: ما أصبرك على الله أي على عذاب الله تعالى.