الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

المعنى:

التشبيه في هذه الآية يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل:

أحدها - وهو أحسنها وأقربها الى الفهم، وأكثرها في باب الفائدة - ما قاله أكثر المفسرين كابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، واختاره الزجاج، والفراء، والطبري، والجبائي، والرماني. وهو المروي عن أبي جعفر (ع) إن مثل الذين كفروا في دعائك إياهم، { كمثل الذي ينعق } أي الناعق في دعائه. المنعوق به من البهائم التي لا تفهم كالابل، والبقر، والغنم، لأنها لا تعقل ما يقال لها، وانما تسمع الصوت. والحذف فى مثل هذا حسن. كقولك لمن هو سيء الفهم: أنت كالحمار، وزيد كالأسد: أي في الشجاعة، لأن المعنى في أحد الشيئين أظهر، فيشبه بالآخر ليظهر بظهوره، وهذا باب حسن البيان.

الثاني - حكاه البلخي، وغيره: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الاوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع، بتعالى، وما جرى مجراه من الكلام، وذلك أنّ البهائم لا تفهم الكلام، وإن سمعت النداء، والدعاء، وأقصى أحوال الأصنام أن تكون كالبهائم في أنها لا تفهم، فاذا كان لا يشكل عليهم أن من دعا البهائم بما ذكرناه جاهل، فهم في دعائهم الحجارة أولى بالجهل وصفة الذم.

الثالث - قال ابن زيد: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلتهم كمثل الناعق في دعائه الصدى في الجبل، وما أشبهه، لأنه لا يسمع منه إلا دعاء ونداء، لأنه اذا قال: يا زيد، سمع من الصدى يا زيد، فيتخيل اليه أن مجيباً أجابه، وليس هناك شيء، فيقول: يا زيد، وليس فيه فائدة، فكذلك يخيل الى المشركين أن دعاءهم للاصنام يستجاب، وليس لذلك حقيقة، ولا فائدة. وإنما رجحنا الوجه الأول، لما بيناه من حسن الكلام، ولانه مطابق للسبب الذي قيل: إنها نزلت في اليهود، فانهم لم يكونوا يعبدون الاصنام، ولا يليق بهم الوجه الثاني، فاذا ثبت ذلك، ففيه ثلاثة أوجه من الحذف:

أولها - { ومثل الذين كفروا } في دعائك لهم كمثل الناعق في دعائه المنعوق به. والثاني - { ومثل الذين كفروا } في دعائهم الاوثان كمثل الناعق في دعائه الأنعام. الثالث - مثل وعظ الذين كفروا كمثل نعق الناعق بما لا يسمع، وهذا من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف اليه مقامه كقول الشاعر:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي   على وعل في ذي المطارة عاقل
والتقدير على مخافة وعل. فان قيل: كيف قوبل الذين كفروا - وهم المنعوق به - بالناعق، ولما تقابل المنعوق به بالمنعوق به - في ترتيب الكلام - أو الناعق بالناعق؟ قيل للدلالة على تضمين الكلام تشبيه اثنين باثنين: الداعي للايمان للمدعو من الكفار بالداعي الى المراد للمدعوّ من الانعام، فلما أريد الايجاز أبقي ما يدل على ما ألقي، فأبقي في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي، ولو رتب على ما قال السائل، لبطل هذا المعنى.

السابقالتالي
2