المعنى: قيل في تكرار قوله: { ومن حيث خرجت } ثلاثة اقوال: احدها - لاختلاف المعنى وإن اتفق اللفظ، لأن المراد بالاول: من حيث خرجت منصرفاً عن التوجه الى بيت المقدس. { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وأريد بالثاني أين كنت في البلاد، فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر الكعبة أو وجهها أو يمينها او شمالها. الثاني - لاختلاف المواطن التي تحتاج الى هذا المعنى فيها. الثالث - لانه مواضع التأكيد بالنسخ الذي نفلوا فيه من جهة الى جهة للتقرير والتثبيت. فان قيل هل في قوله تعالى: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } حذف منه (في الصلاة) أم هو مدلول عليه من غير حذف؟ قيل: هو محذوف، لأنه اجتزء بدلالة الحال عن دلالة الكلام، ولو لم يكن هناك حال دالة لم يكن بدّ من ذكر هذا المحذوف إذا أريد به الافهام لهذا المعنى فأما قوله: عليم وحكيم. فانه يدل على المعلوم من غير حذف. ومعنى قوله: { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ها هنا. قيل فيه قولان: احدهما - لا تعدلوا عما أمركم الله في التوجه إلى الكعبة، فيكون لهم عليكم حجة، بأن يقولوا لو كنتم تعلمون أنه من عند الله ما عدلتم عنه. الثاني - لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون الى الكعبة. وموضع اللام من { لئلا } نصب والعامل فيه احد شيئين: فولوا. والآخر ما دخل الكلام من معنى عرّفتكم ذلك. وهو قول الزجاج. وقوله: { إلا الذين ظلموا منهم } قيل فيه اربعة اقوال: احدها - أنه استثناء منقطع، و { إلا } بمنزلة (لكن) كقوله{ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } وقوله: ماله علي إلا التعدي، والظلم، كأنك قلت: لكن يتعدى ويظلم، وتضع ذلك موضع الحق اللازم، فكذلك لكن الذين ظلموا منهم، فانهم يتعلقون بالشبهة، ويضعونها موضع الحجة. فلذلك حسن الاستثناء المنقطع قال النابغة:
لاعيب فيهم غير أنّ سيوفهم
بهنّ فلول من قراع الكتائب
جعل ذلك عيبهم على طريق البلاغة، وان كان ليس بعيب. كأنه يقول: ان كان فيهم عيب فهذا، وليس هذا بعيب، فاذاً ليس فيهم عيب، فكذا إن كان على المؤمنين حجة، فللظالم في احتجاجه، ولا حجة له، فليس اذاً عليهم حجة. القول الثاني - ان تكون الحجة بمعنى المحاجّة، والمجادلة، كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم، فانهم يحاجوكم بالباطل. الثالث - ما قاله ابوعبيدة ان { إلا } ها هنا بمعنى الواو كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم. وان ذكر ذلك الفراء والمبرد قال الفراء: لا يجىء إلا بمعنى الواو إلاّ اذا تقدم استثناء كما قال الشاعر: