الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } * { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } * { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }

قرأ اهل الكوفة إِلا ابا بكر عن عاصم { بالقسطاس } بكسر القاف. الباقون بالضم، وهما لغتان. وقال الزجاج: القسطاس هو الميزان صغر او كبر. وقال الحسن: هو القبان. وقال مجاهد: هو العدل بالرومية وهو القرصطون. وقال قوم: هو الشاهين. وقرأ ابو بكر عن عاصم " بالقصطاس " بالصاد قلبت السين صاداً مثل (صراط، وسراط) لقرب مخرجهما.

في الآية الاولى نهي من الله تعالى لجميع المكلفين ان يقربوا مال اليتيم إِلاَّ بالتي هي احسن، وهو ان يحفظوا عليه ويثمروه او ينفقوا عليه بالمعروف على ما لا يشك انه اصلح له، فأمّا لغير ذلك، فلا يجوز لاحد التصرف فيه. وانما خصّ اليتيم بذلك وان كان التصرف في مال البالغ بغير اذنه لا يجوز ايضاً، لان اليتيم الى ذلك احوج والطمع في مثله اكثر.

وقوله { حتى يبلغ أشده } قال قوم: حتى يبلغ ثمانية عشرة سنة. وقال آخرون: حتى يبلغ الحلم. وقال آخرون - وهوالصحيح - حتى يبلغ كما العقل ويؤنس منه الرشد.

وقوله { وأوفوا بالعهد } امر من الله تعالى بالوفاء بالعهود، وهو العقد الذي يقدم للتوثق من الامر، ومتى عقد عاقد على ما لا يجوز، فعليه نقض ذلك العقد الفاسد والتبرُّؤ منه. وانما يجب الوفاء بالعقد الذي يحسن. وقيل المعنى في الآية اوفوا بالعهد في الوصية بمال اليتيم وغيرها. وقيل كل ما امر الله به ونهى عنه، فهو من العهد، وقد يجب الشيء للنذر، وللعهد، والوعد به، وان لم يجب ابتداء، وانما يجب عند العقد.

وقوله { إن العهد كان مسؤولاً } قيل في معناه قولان:

احدهما - انه كان مسؤولاً عنه للجزاء عليه، فحذف (عنه) لانه مفهوم.

والثاني - كأن العهد يسأل فيقال له: لم نقضت؟ كما تسأل الموؤدة بأي ذنب قتلت. ثم امرهم ان يوفوهم الكيل اذا كالوا هم؛ ولا يبخسوهم ولا ينقصوهم، وان يوفوا، بالميزان المستقيم الذي لا غبن فيه، فإِن ذلك خير واحسن تأويلا، اي احسن عاقبة، وهو ما يرجع اليه امره. ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقفو ما ليس له به علم، وهو متوجه الى جميع المكلفين، ومعناه لا تقل: سمعت، ولم تسمع؛ ولا رايت ولا علمت، ولم تر، ولم تعلم - في قول قتادة - واصل القفو اتباع الاثر، ومنه القيافة، وكأنه يتبع قفا الاثر المتقدم قال الشاعر:
ومثل الدّمى سم العرانين ساكن   بهنّ الحيا لا يشعن التقافيا
أي التقاذف. وقال أبو عبيد والمبرد: القفو العضيهة، { ولا تقف } - بضم القاف وسكون الفاء - من قاف يقوف، ويكون من المقلوب مثل جذب وجبذ. { ومسؤولاً } نصب على أنه خبر كان.

واستدل بهذه الآية، على أنه لا يجوز العمل بالقياس ولا بخبر الواحد، لأنهما لا يوجبان العلم، وقد نهى الله تعالى أن يتبع الانسان ما لا يعلمه. وقوله { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } أي يسأل عما يفعل بهذه الجوارح من الاستماع لما لا يحل، والإبصار لما لا يجوز. والارادة لما يقبح. وإِنما قال { كل أولئك } ولم يقل كل ذلك، لأن اولئك وهؤلاء للجمع القليل من المذكر والمؤنث فإِذا أراد الكثير جاء بالتأنيث. فقال: هذه وتلك، قال الشاعر:
ذم المنازل بعدمنزلة اللّوى   والعيش بعد أولئك الأيام