الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

قرأ ابن عامر وحده { فَتنوا } جعل الفعل لهم. الباقون { فُتنوا } على ما لم يسم فاعله، يقال: فتنت زيداً، وهي اللغة الجيدة، وحكي افتنت. وحجة من قرأ على ما لم يسم فاعله أن الآية نزلت في المستضعفين المفتنين بمكة: عمار وبلال، وصهيب، فانهم حملوا على الارتداد عن دينهم، فمنهم من اعطى ذلك تقية منهم: عمار، فانه اظهر ذلك تقية، ثم هاجر. ومعنى قراءة بن عامر: انه فتن نفسه، والمعنى من بعد ما فتن بعضهم نفسه باظهار ما اظهره بالتقية قال الرماني: في الآية دلالة على انهم فتنوا في دينهم بمعصية كانت منهم، لقوله { إن ربك من بعدها لغفور رحيم } لأن المغفرة الصفح عن الخطيئة، ولو كانوا أعطوا التقية على حقها لم تكن هناك خطيئة. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، ولا في الكلام دلالة عليه، وذلك ان الله تعالى إِنما قال { إن ربك من بعدها } يعني بعد الفتنة التي فتنوا بها { لغفور رحيم } أي ساتر عليهم، لان ظاهر ما اظهروه يحتمل القبيح والحسن، فلما كشف الله عن باطن امورهم، واخبر انهم كانوا مطمئنين بالايمان كان في ذلك ستر عليهم، وازالة الظاهر المحتمل إِلى الآمر الجلي، وذلك من نعم الله عليهم.

يقول الله تعالى: إِن هؤلاء الذين هاجروا بعد ما فتنوا عن دينهم، وجاهدوا في سبيله وصبروا على الأذى في جنب الله، فان الله اقسم انه ضمن لهم أن يفعل بهم الثواب، وساتر عليهم، ورحيم بهم منعم عليهم.

وقوله { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } (يوم) منصوب بأحد شيئين:

احدهما - على معنى إِن ربك من بعدها لغفور رحيم (يوم).

الثاني - على معنى واذكر يوم، لان القرآن عظة وتذكير، ومعنى تجادل عن نفسها تخاصم كلُّ نفس عن نفسها، وتحتج بما ليس فيه حجة عند الحساب، كما قال تعالى حكاية عنهم:والله ربنا ما كنا مشركين } وقال الأتباعربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } فهم يجادلون الملك السائل لهم بين يدي الله، وقيل: تحتج عن نفسها بما تقدّر به ازالة العقاب عنها.

ثم اخبر الله ان كلّ نفس توّفى جزاء ما عملته على الطاعة الثواب وعلى المعصية العقاب، ولا يظلم احد في ذلك اليوم أحداً.