الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } * { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ }

قرأ الكسائي وحده { لتزول } بفتح اللام الأولى، وضمِّ الثانية. وروي ذلك عن علي (ع). الباقون بكسر اللام الاولى وفتح الثانية.

قال أبو علي: من كسر اللام الأولى وفتح الثانية جعل (إِن) بمعنى (ما) والتقدير وما كان مكرهم لتزول، ومثل ذلك قولهإِن الكافرون إِلاّ في غرور } ومعناه ما الكافرون، ومعنى الآية { وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم } اي جزاء مكرهم، فحذف المضاف كما حذف من قولهترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } اي جزاؤه، والمعنى قد عرف الله مكرهم، فهو يجازيهم عليه وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. و { الجبال } كأنه اراد بها القرآن وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه ودلالاته أي ما كان ليزول منه ما هو مثل الجبال في امتناعه ممّن أَراد إِزالته.

ومن قرأ بفتح اللام الأولى وضمّ الثانية جعل (إِن) هي المخففة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم، وهو في تعظيم مكرهم، كما قال في موضع آخرومكروا مكراً كبّاراً } أي قد كان مكرهم من الكبر والعظم بحيث يكاد يزيل ما هو مثل الجبال في الامتناع، على من أراد إِزالته ومثله في تعظيم الأمر قول الشاعر:
ألم ترَ صدعاً في السماء مبينا   على ابن لبينى الحارث بن هشام
وقال آخر:
بكى حارث الجولان من موت ربه   وحوران منه خاشع متضائل
وقال أوس:
ألم تكسف الشمس شمس النهار   مع النجم والقمر الواجب
فهذا كله على تعظيم الامر وتفخيمه ويدل على ان الجبال يعني بها أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله بعد ذلك { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } اي بعد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم في قولهليظهره على الدين كله } وفي قولهقل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون } وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في تعظيم الشيء وتفخيمه قال ابن مقبل:
اذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى   لها شاعراً مثلي اطب واشعرا
واكثر بيتاً شاعراً ضربت به   بطون جبال الشعر حتى تيسرا
يقول الله تعالى للكفار { أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم زوال } مما انتم عليه من النعيم وأنتم { سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بارتكاب المعاصي وكفران نعم الله، فأهلكهم الله { وضربنا لكم الأمثال } والمعنى ان مثلكم كمثلهم في الاهلاك اذا اقمتم على ما اقاموا عليه، من الفساد والتتابع في المعاصي { ومكروا مكرهم } يعني الكفار الذين ظلموا انفسهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتالوا له، ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم { وعند الله } جزاء مكرهم، ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن وما معك من دلائل النبوّة، فلا يبطل شيء منه، لانه ثابت بالدليل والبرهان.

وعلى القراءة الأولى ولو كان مكرهم يزيل الجبال من عظمه وشدته، لما أزال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لانه أثبت من الجبال.

وروي عن علي (ع) وجماعة انهم قرؤوا { وإن كاد مكرهم } من المقاربة. قال سعيد بن جبير وغيره: ان قوله { ومكروا مكرهم } نزلت في صاحب النسرين الذي أراد صعود السماء. وقال قوم: مكرهم كفرهم بالله وشركهم في عبادته.