الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

هذه الآية عطف على قول نوح: إنما يأتيكم بالعذاب الله إن شاء ولستم تفوتونه، { ولا ينفعكم نصحي } ويحتمل قوله { يريد أن يغويكم } أمرين:

احدهما - ان كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته بأن يحرمكم ثوابه، ويعاقبكم لكفركم به، ولا ينفعكم نصحي يقال: غوى يغوي غياً، ومنه قوله تعالىفسوف يلقون غياً } أي خيبة وعذاباً وقال الشاعر:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره   ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
فلما كان الله قد خيب قوم نوح من رحمته وثوابه وجنته أعلم نبيه نوحاً بذلك في قولهلن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن } وأنهم سيصيرون إلى خيبة وعذاب، أخبرهم الله بذلك على لسان نبيه، فقال { ولا ينفعكم نصحي } مع إتيانكم ما يوجب خيبتكم والعذاب الذي جرّه عليكم قبيح أفعالكم، ويريد الله إهلاككم وعقوبتكم على ذلك. وحكي عن طي انها تقول: أصبح فلان غاوياً أي مريضاً. وحكي عن غيرهم سماعاً منهم: أغويت فلاناً أهلكته، وغوي الفصيل إذا فقد اللبن فمات: بكسر الواو في الماضي، وفتحها في المستقبل، ومنه قوله تعالىوعصى آدم ربه فغوى } اي خاب من الثواب الذي كان يحصل له بتركه.

والوجه الثاني - أن يكون جرى على عادة العرب في تسمية العقوبة باسم الشيء المعاقب عليه، فيكون المعنى ان كان الله يريد عقوبتكم على اغوائكم الخلق واضلالكم اياهم، فسمى عقوبته اياهم على اغوائهم اغواء كما قالوجزاء سيئة سيئة } ومكروا ومكر الله } والله يستهزئ بهم } ونظائر ذلك كثيرة. ومثله قوله حكاية ابليسبما أغويتني } فانه يحتمل هذين الوجهين، الأول يحتمل أن يكون فبما خيبتني، والثاني - فبما جازيتني على اغوائي الخلق عن الهدى. ولا يجوز أن يكون المراد بذلك أن يجعلهم كفاراً على ما يذهب اليه المجبرة؛ لأن الاغواء بمعنى الدعاء إلى الكفر او فعل الكفر لا يجوز عليه تعالى، لقبحه كقبح الامر بالكفر. والنصح اخلاص العمل من الفساد على الاجتهاد فيه. والنصح نقيض الغش. وكان نصح نوح لقومه اعلامهم موضع الغي ليتقوه، وموضع الرشد ليتبعوه. وانما شرط النصح بالارادة - في قوله { إن أردت أن أنصح } مع وقوع هذا النصح - استظهاراً في الحجة؛ لأنهم ذهبوا إلى أنه ليس بنصح، فقال: لو كان نصحاً ما نفع من لا يقبله. وقوله { هو ربكم وإليه ترجعون } اخبار من نوح أن الله الذي عذبكم وخيبكم من رحمته هو الذي خلقكم ويميتكم ثم يردكم بأن يحبيكم ليجازيكم على افعالكم ويعاقبكم على كفركم بنعمه حيث لا ينفعكم استدراك ما فات، ولا ينفعكم الندم على ما مضى. وقال الحسن: معنى الاية ان كان الله يريد أن يعذبكم وينزل بكم عذابه فانتم عند ذلك لا ينفعكم نصحي، لأن الله تعالى لا يقبل الايمان عند نزول العذاب.

وقال بعض العلماء: ان قوم نوح كانوا يعتقدون أن ما هم عليه بارادة الله لولا ذلك لغيّره وأجبرهم على خلافه، فقال نوح على وجه الانكار عليهم والتعجب من قولهم: ان نصحي لا ينفعكم ان كان القول كما تقولون وتعتقدونه، حكى ذلك البلخي.