الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }

قرأ حمزة والكسائي وحفص { فعميت } بضم العين وتشديد الميم. الباقون بتخفيف الميم وفتح العين. وقال ابو علي: من قرأ { فعميت } بالتخفيف فلقولهفعميت عليهم الأنباء يومئذ } وهذه مثلها. ويجوز في قوله { فعميت } أمران: احدهما - ان يكون عموا هم، الا ترى ان الرحمة لا تعمى وانما يعمى عنها، فيكون هذا من المقلوب، كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في أصبعي ونحو ذلك مما يقلب إذا زال الاشكال. والاخر - ان يكون معنى عميت خفيت كقول الشاعر:
ومهمه أطرافه في مهمه   أعمى الهدى في الحائرين العمه
أي خفي الهدى ألا ترى أن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة، وقد قيل للسحاب: العمى لخفاء ما يخفيه، كما قيل له: الغمام ومن ذلك قول زهير:
ولكنني عن علم ما في غد عمي   
ومن شدد اعتبر قراءة الاعمش فانه قرأها فعمّاها عليهم. وروى ذلك الفراء عن أبي، والمعنيان متقاربان. قال الفراء: يقال عمى علي الخبر وعمي بمعنى واحد.

حكى الله تعالى عن نوح ما قاله لقومه جواباً عما قالوه له مما حكيناه فانه { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة } أي برهان وحجة من المعجزة التي تشهد بصحة النبوة. وخصهم بهذا إذ هو طريق العلم بالحق لا ما التمسوا من اختلاف الخلق. وقوله { آتاني رحمة من عنده } يرّد عليهم ما ادعوه من أنه ليس له عليهم فضل، فبين ذلك بالهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم. وقوله { فعميت } يحتمل امرين: احدهما - خفيت عليكم، لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي اليها. والاخر - ان يكون المعنى عميتم عنها، واضاف العمى إلى البينة لما عموا عنها لضرب من المجاز؛ لأن المعنى ظاهر في ذلك، كما يقال: ادخلت الخاتم في يدي والقلنسوة في راسي، والمراد ادخلت يدي في الخاتم ورأسي في القلنسوة. ومن قرأ بتشديد الميم وضم العين أضاف التعمية إلى غيرهم ممن صدهم عن النظر فيها واغواهم في ذلك من الشياطين والمضلين عن الحق.

وقوله { أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } أنضطركم إلى موجب البينة مع العلم مع كراهتكم لذلك فيبطل تكليفكم الاستدلال بالبينة المؤدية إلى المعرفة أي أضطركم إلى حال الضرورة. ووجه آخر - وهو أن يكون المراد إن الذي علي أن أدل بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى المعرفة.

وفي قوله { أنلزمكموها } ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب، وهو أحسن ترتيب: بدأ بالمتكلم، لانه اخص بالفعل ثم بالمخاطب ثم بالغائب، ولو اتى بالمنفصل لجاز لتباعده عن العامل بما فرق بينه وبينه، فاشبه ما ضربت إلا إياك، وما ضربني إلا انت. وأجاز الفراء { أنلزمكموها } بتسكين الميم جعله بمنزلة عضد وعضد وكبد وكبد. ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن الاعراب لا يلزم فيه النقل كما يلزم في بناء الكلمة، وإنما يجيزون مثل ذلك في ضرورة الشعر كقول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب   إثماً من الله ولا واعل
وقال آخر:
وناع يخبرنا بمهلك سيد   تقطع من وجد عليه الانامل
وقال آخر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم