الرئيسية - التفاسير


* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }

القراءة واللغة:

قرأ أهل الكوفة الا أبا بكر { سعدوا } بضم السين. الباقون بفتحها.

قال ابو علي: حكى سيبويه: سعد يسعد سعادة، فهو سعيد. وينبغي أن يكون غير متعد، كما أن خلافه الذي هو (شقي) كذلك، واذا لم يكن متعدياً لم يجب أن يبني منه المفعول به، وإذا كان كذلك، ضم السين مشكل الا ان يكون سمع فيه لغة خارجة عن القياس أو يكون من باب (فعل وفعلته) نحو غاض الماء وغضته، وحزن وحزنته، ولعلهم استشهدوا على ذلك بقولهم (مسعود) فانه على سعد فهو مسعود، ولا دلالة في ذلك، لأنه يجوز ان يكون مثل أجنه الله فهو مجنون، واحبه فهو محبوب، فالمفعول جاء في هذا على أنه حذفت الزيادة منه، كما حذف من اسم الفاعل في نحو (ويكشف جمانة دلو الدالي) وانما هو المدلي، ومثلهوأرسلنا الرياح لواقح } يعني ملاقح فجاء على حذف الزيادة، فعلى هذا يكون أصله أسعدوا بحذف الزائد. وحكى البلخي انهما لغتان - ضم السين - لغة هذيل، وفتحها لغة سائر العرب.

المعنى:

لما اخبر الله تعالى أن الذين شقوا بفعلهم المعاصي واستحقوا الخلود في النار، اخبر ان الذين سعدوا بطاعات الله والانتهاء عن معاصيه يكونون في الجنة { ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } ومعنى ما دامت السموات والارض المصدر، كأنه قال دوام السموات والارض الا مشيئة ربك، وفيه حسن التقابل، وفيه جميع ما ذكرناه في الاستثناء من الخلود في النار إلا الوجهين الذين ذكرناهما في جواز إخراج بعض الاشقياء ممن تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار بعد دخولهم فيها، فان ذلك لا يجوز - ها هنا - لاجماع الأمة على أن كل مستحق للثواب لا بد أن يدخل الجنة، ولا يخرج منها بعد دخوله فيها.

وقيل فيه وجه آخر يوافق ما قلناه في الآية الاولى، وهو أن يكون المعنى " ان الذين سعدوا " بطاعات الله يدخلون الجنة خالدين فيها، واستثنى من جملتهم من كان مستحقاً للنار، واراد الله عقابهم. ثم إخراجهم منها فكأنه قال خالدين فيها الا مدة ما كانوا معاقبين في النار، ذهب اليه الضحاك وهو يليق بقولنا في الارجاء.

وقوله { عطاء غير مجذوذ } يعني غير مقطوع - في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك - يقال جذّه يجذه جذّاً فهو جاذ، وجذ الله أثرهم قال النابغة:
يجذّ السلوقي المضاعف نسجه   ويوقد بالصفاح نار الحباحب
ويقال جذه الله جذ الصليانة، وهي نبات. وقوله { عطاء } نصب على المصدر بما يدل عليه الأول كأنه قال اعطاهم النعيم عطاء غير مجذوذ.