الرئيسية - التفاسير


* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }

القراءة: قرأ نافع وابن عامر واتخذوا مفتوحة الخاء وقرأ الباقون واتخذوا مكسورة الخاء. الحجة: من قرأ بكسر الخاء فإنه على الأمر والإلزام ويكون عطفاً على قولـه يا بني إسرائيل اذكروا ويجوز أن يكون عطفاً على قولـه { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس } من طريق المعنى لأن معناه ثوبوا واتخذوا ومن قرأ بالفتح عطفه على ما تقدمهُ من الفعل الذي أضيف إليه إذ فكأنهُ قال وإذ اتخذوا. اللغة: البيت والمأوى والمنزل نظائر والبيت من أبيات الشعر سمي بذلك لضمه الحروف والكلام كما يضم البيت من بيوت الناس أهله والبيت من بيوتات العرب وهي إحياؤها وامرأة الرجل بيتهُ قال الراجز:
مَا لي إِذَا أَجْذِبُهَا صأَيْتُ   أَكِبَرٌ قَدْ غَالَنِي أمْ بَيْتُ
المثابة ها هنا الموضع الذي يثاب إليه من ثاب يثوب مثابة ومثاباً وثؤباً إذا رجع قال ورقة بن نوفل في صفة الحرم:
مَثَابٌ لأفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلّهَا   تَخُبُّ إِلَيْهَا اليعْملاتُ الطَّلائِحُ
ومنه ثاب إليهِ عقله أي رجع بعد عزوبه وأصل مثابة مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء ثم قلبت ألفاً على ما قبلها وقيل إن التاء فيه للمبالغة كما قيل نسابة وقيل إن معناهما واحد كمقامة ومقام قال زهير:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهَا   وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ والفِعْلُ
وجمع المقام مقاوم قال:
وَإِنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لَمْ يَكُـــنْ   جَرِيرٌ وَلاَ مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا
والطائف والجائل والدائر نظائر ويقال طاف يطوف طوفاً إذا دار حول الشيء وأطاف به إطافة إذا لم به وأطاف به إذا أحاط به والطائف العاس والطوّافون المماليك والطائف طائف الجن والشيطان وهو كل شيء يغشي القلب من وسواسه وهو طيف أيضاً والعاكف المقيم على الشيء اللازم له وعكف يعكف عكفاً وعكوفاً قال النابغة:
عُكُوفٌ عَلى أَبْيَاتِهِمْ يَثْمِدُونَها   رَمَى اللهُ فِي تِلْكَ الأكُفِّ الكَوَانِعِ
والعاكف المعتكف في المسجد وقلَّ ما يقولون عكف وإنما يقولون اعتكف والركع جمع الراكع والسجود جمع الساجد وكل فعل مصدره على فعول جاز في جمع الفاعل منه أن يكون على فعول كالقعود والركوع والسجود ونحوها. المعنى: قولـه { وإذ جعلنا } عطف على قولـه وإذ ابتلى وذلك معطوف على قولـه { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } و { البيت } الذي جعله الله مثابة هو البيت الحرام وهو الكعبة وروي أنه سمي البيت الحرام لأنه حرم على المشركين أن يدخلوه وسمي الكعبة لأنها مربعة وصارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع وصار البيت المعمور مربعاً لأنه بحذاء العرش وهو مربع وصار العرش مربعاً لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقولـه: { مثابة للناس } ذكر فيه وجوه فقيل إن الناس يثوبون إليه كل عام أي ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس عن الحسن وقيل معناه أنه لا ينصرف منه أحد وهو يرى أنه قد قضى منه وَطَراً فهم يعودون إليه عن ابن عباس وقد ورد في الخبر أن من رجع من مكة وهو ينوي الحج من قابل زيد في عمره ومن خرج من مكة وهو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله وقيل معناه يحجون إليه فيثابون عليه وقيل مثابة معاذاً وملجأ وقيل مجمعاً والمعنى في الكل يؤول إلى أنهم يرجعون إليه مرة بعد مرة وقولـه: { وأمناً } أراد مأمنا أي موضع أمن وإنما جعله الله آمناً بأن حكم أن من عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه وبما جعله في نفوس العرب من تعظيمه حتى كانوا لا يتعرضون من فيه فهو آمن على نفسه وماله وإن كانوا يتخطفون الناس من حوله ولعظم حرمته لا يقام في الشرع الحد على من جنى جناية فالتجأ إليه وإلى حرمه لكن يُضيًّق عليه في المطعم والمشرب والبيع والشراء حتى يخرج منه فيقام عليه الحد فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحد فيه لأنه هتك حرمة الحرم فهو آمن من هذه الوجوه وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له وهذا شيء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل فبقوا عليه إلى أيام نبينا صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2 3 4