الرئيسية - التفاسير


* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

اللغة: البلع إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف والإقلاع إذهاب الشيء من أصله حتى لا يرى له أثر. يقال: أقلعت السماء إذا ذهب مطرها حتى لا يبقى شيء منه وأقلع عن الأمر إذا تركه رأساً. المعنى: ثم بيَّن سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان فقال: { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } أي قال الله سبحانه للأرض انشفي ماءك الذي نبعت به العيون واشربي ماءك حتى لا يبقى على وجهك شيء منه وهذا إخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز مدة فجرى مجرى أن قيل لها ابلعي فبلعت { ويا سماء أقلعي } أي وقال تعالى للسماء يا سماء أمسكي عن المطر وهذا إخبار عن إقشاع السحاب وانقطاع المطر في أسرع زمان فكأنه قال لها أقلعي فأقلعت: { وغيض الماء } أي ذهب به عن وجه الأرض إلى باطنه والمعنى ونشفت الأرض ماءُها ويقال: إن الأرض ابتلعت جميع مائها وماء السماء لقولـه { وغيض الماء } ويقال لم تبتلع ماء السماء لقولـه { ابلعي ماءك } وإن ماءَ السماء صار بحاراً وأنهاراً وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام { وقضي الأمر } أي وقع إهلاك الكفار على التمام وفرغ من الأمر. وقيل: وقضي الأمر بنجاة نوح ومن معه { واستوت على الجودي } أي استقرت السفنية على الجبل المعروف. قال الزجاج: هو بناحية آمد. وقال غيره: بقرب جزيرة الموصل قال زيد بن عمرو بن نفيل:
سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحاناً يَعُودُ لَهُ   وَقَبْلَهُ سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ
وقال أبو مسلم: الجودي اسم لكل جبل وأرض صلبة وفي كتاب النبوة مسنداً إلى أبي بصير عن أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر عليهما السلام. قال: كان نوح لبث في السفينة ما شاء الله وكانت مأمورة فخلّى سبيلها فأوحى الله إلى الجبال إني واضع سفينة نوح على جبل منكن فتطاولت الجبال وشمخت وتواضع الجودي وهو جبل بالموصل فضرب جؤجؤ السفينة الجبل فقال نوح عند ذلك: يا ماريا اتقن وهو بالعربية يا رب أصلح وفي رواية أخرى يا رهمان اتقن وتأويله يا رب أحسن. وقيل: أرست السفينة على الجودي شهراً. { وقيل بعداً للقوم الظالمين } أي قال الله تعالى ذلك ومعناه أبعد الله الظالمين من رحمته لإيرادهم أنفسهم مورد الهلاك وإنما انتصب على المصدر وفيه معنى الدعاء ويجوز أن يكون هذا من قول الملائكة أو من قول نوح والمؤمنين، وفي هذه الآية من بدائع الفصاحة وعجائب البلاغة ما لا يقارب كلام البشر ولا يدانيه، منها أنه خرج مخرج الأمر وإن كانت الأرض والسماء من الجماد ليكون أدلّ على الاقتداء، ومنها حسن تقابل المعنى وائتلاف الألفاظ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال، ومنها الإيجاز من غير إخلال إلى غير ذلك مما يعلمه من تدبُّره وله معرفة بكلام العرب ومحاوراتهم، ويروى أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.