الرئيسية - التفاسير


* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }

- علي بن إبراهيم: إنها نزلت بمكة قبل الهجرة، و كان سبب نزولها " أنه لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه و آله) الدعوة بمكة قدمت عليه الأوس و الخزرج، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه و آله): " تمنعوني و تكونون لي جارا حتى أتلو عليكم كتاب ربي، و ثوابكم على الله الجنة؟ " فقالوا: نعم، خذ لربك و لنفسك ما شئت. فقال لهم:

" موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ". فحجوا و رجعوا إلى منى، و كان فيهم ممن قد حج بشر كثير، فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق، قال لهم رسول الله (صلى الله عليه و آله): إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، و لا تنبهوا نائما، و لينسل واحد فواحد، فجاء سبعون رجلا من الأوس و الخزرج فدخلوا الدار، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه و آله): " تمنعوني و تجيروني حتى أتلوا عليكم كتاب ربي، و ثوابكم على الله الجنة؟ ".

فقال سعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد الله بن حرام: نعم- يا رسول الله- اشترط لربك و لنفسك ما شئت.

فقال: " أما ما أشترط لربي فأن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، و تمنعوا أهلي مما تمنعون أهليكم و أولادكم ". فقالوا: فما لنا على ذلك؟ فقال: " الجنة في الآخرة، و تملكون العرب، و تدين لكم العجم في الدنيا، و تكونون ملوكا في الجنة في الآخرة ". فقالوا: قد رضينا.

فقال: " اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، يكونون شهداء عليكم بذلك " كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فأشار إليهم جبرئيل، فقال: هذا نقيب، و هذا نقيب، تسعة من الخزرج، و ثلاثة من الأوس، فمن الخزرج: سعد بن زرارة، و البراء بن معرور، و عبد الله بن حرام- و هو أبو جابر بن عبد الله- و رافع بن مالك، و سعد بن عبادة، و المنذر بن عمرو، و عبد الله بن رواحة، و سعد بن الربيع، و عبادة بن الصامت. و من الأوس: أبو الهيثم بن التيهان- و هو من اليمن- و أسيد بن حضير، و سعد بن خيثمة.

فلما اجتمعوا و بايعوا لرسول الله (صلى الله عليه و آله) صاح إبليس: يا معشر قريش و العرب، هذا محمد و الصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم. فأسمع أهل منى، و ماجت قريش، فأقبلوا بالسلاح، و سمع رسول الله (صلى الله عليه و آله) النداء، فقال للأنصار: " تفرقوا " فقالوا: يا رسول الله، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " لم أؤمر بذلك، و لم يأذن الله لي في محاربتهم ". قالوا- فتخرج معنا؟ قال: " أنتظر أمر الله ".

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، و خرج حمزة و أمير المؤمنين (عليهما السلام) و معهما السيوف فوقفا على العقبة، فلما نظرت قريش إليهما، قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا و ما هيأنا أحدا، و الله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي هذا. فرجعوا إلى مكة، و قالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا، و يدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد.

فاجتمعوا في دار الندوة، و كان لا يدخل في دار الندوة إلا من قد أتى عليه أربعون سنة، فدخل أربعون رجلا من مشايخ قريش، و جاء إبليس في صورة شيخ كبير، فقال له البواب: من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد، لا يعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لأشير عليكم. فقال: ادخل، فدخل إبليس.

فلما أخذوا مجلسهم، قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل الله تغدو إلينا العرب في السنة مرتين و يكرموننا، و نحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد ابن عبد الله، فكنا نسميه الأمين لصلاحه و سكونه و صدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادعى أنه رسول الله، و أن أخبار السماء تأتيه، فسفه أحلامنا، و سب آلهتنا، و أفسد شبابنا، و فرق جماعتنا، و زعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، و لم يرد علينا شيء أعظم من هذا، و قد رأيت فيه رأينا، قالوا: و ما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلا منا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات.

فقال الخبيث: هذا رأي خبيث، قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة، فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم، فإنه إذا قتل محمد تعصبت بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض، فتقع بينكم الحروب في حرمكم، و تتفانوا.

فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر، قالوا: و ما هو؟ قال: نثبته في بيت و نلقي إليه قوته حتى يأتي إليه ريب المنون فيموت، كما مات زهير و النابغة و امرؤ القيس.

فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر، قالوا: و كيف ذاك؟ قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم و اجتمعوا عليكم فأخرجوه.

قال آخر منهم: لا، و لكنا نخرجه من بلادنا، و نتفرغ نحن لعبادة آلهتنا.

قال إبليس: هذا أخبث من الرأيين المتقدمين، قالوا: و كيف ذاك؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها، و أنطق الناس لسانا، و أفصحهم لهجة، فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم و يسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلا و قد ملأها عليكم خيلا و رجلا. فبقوا حائرين، ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه، يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأي واحد، قالوا: و ما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد و يكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينا أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه، و قد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات، قالوا:

نعم، و عشر ديات. ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي، فاجتمعوا و دخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي (صلى الله عليه و آله).

و نزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه و آله) فأخبره أن قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، و أنزل الله عليه في ذلك: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }.

و اجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، و خرجوا إلى المسجد يصفرون و يصفقون و يطوفون بالبيت، فأنزل الله: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال: 35] فالمكاء: التصفير، و التصدية: صفق اليدين، و هذه الآية معطوفة على قوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } و قد كتبت بعد آيات كثيرة.

فلما أمسى رسول الله (صلى الله عليه و آله) جاءت قريش ليدخلوا عليه، فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل، فإن في الدار صبيانا و نساء، و لا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و أمر رسول الله (صلى الله عليه و آله) أن يفرش له ففرش له. فقال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): " افدني بنفسك ". قال: " نعم، يا رسول الله ". قال: " نم على فراشي، و التحف ببردتي ". فنام علي (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه و آله) و التحف ببردته و جاء جبرئيل (عليه السلام) فأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أخرجه على قريش و هم نيام، و هو يقرأ عليهم: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يس: 9]، و قال له جبرئيل: خذ على طريق ثور، و هو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار، و كان من أمره ما كان.

فلما أصبحت قريش و أتوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش، وثب علي (عليه السلام) في وجوههم، فقال: " ما شأنكم؟ " قالوا له: أين محمد؟ قال: " أ جعلتموني عليه رقيبا، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم ".

فأقبلوا على أبي لهب يضربونه، و يقولون: أنت تخدعنا منذ الليلة. فتفرقوا في الجبال، و كان فيهم رجل من خزاعة، يقال له أبو كرز يقفو الآثار، فقالوا له: يا أبا كرز اليوم اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله (صلى الله عليه و آله). و قال لهم: هذه قدم محمد، و الله إنها لأخت القدم التي في المقام. و كان أبو بكر استقبل رسول الله (صلى الله عليه و آله) فرده معه، فقال أبو كرز: و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه. ثم قال: و ها هنا عبر ابن أبي قحافة فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار. ثم قال: ما جاوزا هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض. و بعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، و جاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار. ثم قال: ما في الغار أحد، فتفرقوا في الشعاب، و صرفهم الله عن رسوله (صلى الله عليه و آله)، ثم أذن لنبيه (صلى الله عليه و آله) في الهجرة ".


السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8