الرئيسية - التفاسير


* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } * { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } * { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } * { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } * { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } * { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } * { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } * { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } * { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } * { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }

قوله تعالى:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } - إلى قوله تعالى- { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [9- 22]

8546/ [1]- محمد بن يعقوب: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن هشام ابن سالم، عن أبان بن عثمان، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قام رسول الله (صلى الله عليه و آله) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب، في ليلة ظلماء قرة ، فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم، و له الجنة؟

فلم يقم أحد، ثم أعادها، فلم يقم أحد- فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بيده- و ما أراد القوم، أرادوا أفضل من الجنة؟! ثم قال: من هذا؟ فقال: حذيفة. فقال: أما تسمع كلامي منذ الليلة، و لا تكلم؟ اقترب. فقام حذيفة، و هو يقول: القر و الضر- جعلني الله فداك- منعني أن أجيبك. فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): انطلق حتى تسمع كلامهم و تأتيني بخبرهم. فلما ذهب قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): اللهم احفظه من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله، حتى ترده- و قال له رسول الله (صلى الله عليه و آله)- يا حذيفة، لا تحدث شيئا حتى تأتيني. فأخذ سيفه و قوسه و حجفته. قال حذيفة: فخرجت، و ما بي من ضر و لا قر، فمررت على باب الخندق، و قد اعتراه المؤمنون و الكفار.

فلما توجه حذيفة، قام رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و نادى: يا صريخ المكروبين، و يا مجيب دعوة المضطرين، اكشف همي و غمي و كربي، فقد ترى حالي و حال أصحابي. فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام)، فقال: يا رسول الله، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك، و دعاءك، و قد أجابك، و كفاك هول عدوك. فجثا رسول الله (صلى الله عليه و آله) على ركبتيه، و بسط يديه، و أرسل عينيه، ثم قال: شكرا، شكرا كما رحمتني، و رحمت أصحابي. ثم قال: يا رسول الله ، قد بعث الله عز و جل عليهم ريحا من السماء الدنيا فيها حصى، و ريحا من السماء الرابعة فيها جندل.

قال حذيفة: فخرجت، فإذا أنا بنيران القوم، و أقبل جند الله الأول، ريح فيها حصى، فما تركت لهم نارا إلا أذرتها، و لا خباء إلا طرحته، و لا رمحا إلا ألقته، حتى جعلوا يتترسون من الحصى، فجعلنا نسمع وقع الحصى في الترس. فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين، فقال: أيها الناس، إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب، ألا و إنه لا يفوتكم من أمره شيء، فإنه ليس سنة مقام، قد هلك الخف و الحافر، فارجعوا، و لينظر كل واحد منكم جليسه. قال حذيفة: فنظرت عن يميني، فضربت بيدي، فقلت:

من أنت؟ فقال: معاوية، فقلت للذي عن يساري: من أنت؟ فقال سهيل بن عمرو.

قال حذيفة: و أقبل جند الله الأعظم، فقام أبو سفيان إلى راحلته، فصاح في قريش: النجاء النجاء. و قال طلحة الأزدي: لقد زادكم محمد بشر، ثم قام إلى راحلته، و صاح في بني أشجع: النجاء النجاء: و فعل عيينة بن حصن مثلها، ثم فعل الحارث بن عوف المري مثلها، ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها، و ذهب الأحزاب، و رجع حذيفة إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) فأخبره الخبر ". قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنه كان أشبه بيوم القيامة ".

8547/ [2]- علي بن إبراهيم: إنها نزلت في قصة الأحزاب من قريش و العرب، الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه و آله). قال: و ذلك أن قريشا تجمعت في سنة خمس من الهجرة، و ساروا في العرب، و جلبوا ، و استنفروهم لحرب رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فوافوا في عشرة آلاف، و معهم كنانة، و سليم، و فزارة.

و كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) حين أجلى بني النضير- و هم بطن من اليهود- من المدينة، و كان رئيسهم حيي ابن أخطب، و هم يهود من بني هارون (عليه السلام)، فلما أجلاهم من المدينة، صاروا إلى خيبر، و خرج حيي بن أخطب، و هم إلى قريش بمكة، و قال لهم: إن محمدا قد وتركم و وترنا، و أجلانا من المدينة من ديارنا و أموالنا، و أجلى بني عمنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض، و اجمعوا حلفاءكم و غيرهم، حتى نسير إليهم، فإنه قد بقي من قومي بيثرب سبع مائة مقاتل، و هم بنو قريظة، و بينهم و بين محمد عهد و ميثاق، و أنا أحملهم على نقض العهد بينهم و بين محمد، و يكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق، و هم من أسفل.

و كان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين، و هو الموضع الذي يسمى (بئر المطلب) ، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش، و كنانة، و الأقرع بن حابس في قومه، و العباس بن مرداس في بني سليم.

فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و استشار أصحابه، و كانوا سبع مائة رجل، فقال سلمان الفارسي: يا رسول الله، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة. قال: " فما نصنع؟ " قال: نحفر خندقا يكون بيننا و بينهم حجابا فيمكنك منعهم في المطاولة، و لا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق، فتكون الحرب من مواضع معروفة. فنزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقال: " أشار سلمان بصواب ". فأمر رسول الله (صلى الله عليه و آله) بمسحه من ناحية أحد، إلى راتج ، و جعل على كل عشرين خطوة، و ثلاثين خطوة قوما من المهاجرين و الأنصار يحفرونه، فأمر، فحملت المساحي و المعاول، و بدأ رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فأخذ معولا، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، و أمير المؤمنين (عليه السلام) ينقل التراب عن الحفرة، حتى عرق رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أعيا، و قال: " لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم اغفر للمهاجرين و الأنصار ".

فلما نظر الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) يحفر، اجتهدوا في الحفر، و نقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر، و قعد رسول الله (صلى الله عليه و آله) في مسجد الفتح، فبينا المهاجرون و الأنصار يحفرون، إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه، فبعثوا جابر بن عبد الله الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) يعلمه بذلك.

قال جابر: فجئت إلى المسجد، و رسول الله (صلى الله عليه و آله) مستلق على قفاه، و رداؤه تحت رأسه، و قد شد على بطنه حجرا فقلت: يا رسول الله، إنه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه. فقام مسرعا حتى جاءه، ثم دعا بماء في إناء، فغسل وجهه و ذراعيه، و مسح على رأسه و رجليه، ثم شرب، و مج من ذلك الماء في فيه، ثم صبه على ذلك الحجر، ثم أخذ معولا فضرب ضربة، فبرقت برقة، فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب اخرى، فبرقت اخرى، فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب اخرى فبرقت برقة اخرى، فنظرنا فيها إلى قصور اليمن، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " إن الله سيفتح عليكم هذه المواطن التي برق فيها البرق ". ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

فقال جابر: فعلمت أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) مقو- أي جائع- لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول الله، هل لك في الغذاء؟ قال: " ما عندك، يا جابر؟ " فقلت: عناق ، و صاع من شعير. فقال: " تقدم، و أصلح ما عندك " قال جابر: فجئت إلى أهلي، فأمرتها، فطحنت الشعير، و ذبحت العنز، و سلختها، و أمرتها أن تخبز، و تطبخ، و تشوي، فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقلت: بأبي أنت و امي- يا رسول الله- قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت، فقام (صلى الله عليه و آله) إلى شفير الخندق، ثم قال: " يا معاشر المهاجرين و الأنصار، أجيبوا جابرا " قال جابر: و كان في الخندق سبع مائة رجل، فخرجوا كلهم، ثم لم يمر بأحد من المهاجرين و الأنصار إلا قال:

" أجيبوا جابرا ". قال جابر: فتقدمت، و قلت لأهلي: قد- و الله- أتاك محمد رسول الله (صلى الله عليه و آله) بما لا قبل لك به.

فقالت: أعلمته أنت بما عندنا؟ قلت: نعم. قالت: فهو أعلم بما أتى.

قال جابر: فدخل رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فنظر في القدر، ثم قال: " اغرفي، و أبقي ". ثم نظر في التنور، ثم قال: " أخرجي، و أبقي " ، ثم دعا بصفحة ، فثرد فيها، و غرف، فقال: " يا جابر، أدخل علي عشرة ". فأدخلت عشرة، فأكلوا حتى تملؤوا ، و ما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال: " يا جابر، علي بالذراع ". فأتيته بذراع، فأكلوه، ثم قال: " أدخل علي عشرة ". فأدخلتهم، فأكلوا حتى تملؤوا ، و لم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال: " علي بذراع " فأكلوا، و خرجوا. ثم قال: " أدخل علي عشرة " ، فأدخلتهم، فأكلوا حتى تملؤوا، و لم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال: " يا جابر علي بالذراع " فأتيته، فقلت: يا رسول الله، كم للشاة من ذراع؟ قال: " ذراعان ".

فقلت: و الذي بعثك بالحق نبيا، لقد أتيتك بثلاثة. فقال: " أما لو سكت- يا جابر- لأكل الناس كلهم من الذراع ". قال:

" يا جابر، أدخل عشرة ". فأقبلت ادخل عشرة عشرة، فيأكلون، حتى أكلوا كلهم، و بقي لنا- و الله- من ذلك الطعام ما عشنا به أياما.

قال: و حفر رسول الله (صلى الله عليه و آله) الخندق، و جعل له ثمانية أبواب، و جعل على كل باب رجلا من المهاجرين، و رجلا من الأنصار، مع جماعة يحفظونه، و قدمت قريش، و كنانة، و سليم، و هلال، فنزلوا الزغابة ، ففرغ رسول الله (صلى الله عليه و آله) من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيام.

و أقبلت قريش، و معهم حيي بن أخطب، فلما نزلوا العقيق جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل، و كانوا في حصنهم قد تمسكوا بعهد رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فدق باب الحصن، فسمع كعب بن أسد قرع الباب، فقال لأهله: هذا أخوك قد شأم قومه، و جاء الآن يشأمنا، و يهلكنا، و يأمرنا بنقض العهد بيننا و بين محمد، و قد وفى لنا محمد، و أحسن جوارنا. فنزل إليه من غرفته، فقال له: من أنت؟ قال: حيي بن أخطب، قد جئتك بعز الدهر. قال: كعب: بل جئتني بذل الدهر. فقال: يا كعب، هذه قريش في قادتها و سادتها قد نزلت بالعقيق، مع حلفائهم من كنانة، و هذه فزارة، مع قادتها و سادتها قد نزلت الزغابة، و هذه سليم و غيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان، و لا يفلت محمد و أصحابه من هذا الجمع أبدا، فافتح الباب، و انقض العهد الذي بينك و بين محمد. فقال كعب: لست بفاتح لك الباب، ارجع من حيث جئت. فقال حيي: ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك التي في التنور، تخاف أن أشركك فيها، فافتح فإنك آمن من ذلك. فقال له كعب: لعنك الله، لقد دخلت علي من باب دقيق. ثم قال: افتحوا له الباب. ففتحوا له، فقال: ويلك- يا كعب- انقض العهد الذي بينك و بين محمد، و لا ترد رأيي، فإن محمدا لا يفلت من هذا الجمع أبدا، فإن فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبدا.

قال: فاجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود، مثل: غزال بن شمول، و ياسر بن قيس، و رفاعة بن زيد، و الزبير بن باطا، فقال لهم كعب: ما ترون؟ قالوا: أنت سيدنا، و المطاع فينا، و صاحب عهدنا و عقدنا، فإن نقضت نقضنا، و إن أقمت أقمنا معك، و إن خرجت خرجنا معك. فقال الزبير بن باطا- و كان شيخا كبيرا مجربا، قد ذهب بصره-: قد قرأت التوراة التي أنزلها الله في سفرنا بأنه يبعث نبي في آخر الزمان، يكون مخرجه بمكة، و مهاجرته إلى المدينة في هذه البحيرة يركب الحمار العري ، و يلبس الشملة ، و يجتزئ بالكسيرات و التميرات، و هو الضحوك القتال، في عينيه الحمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر، فإن كان هذا هو فلا يهولنه هؤلاء و جمعهم، و لو ناوأته هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال حيي: ليس هذا ذاك، ذاك النبي من بني إسرائيل، و هذا من العرب، من ولد إسماعيل، و لا يكون بنو إسرائيل أتباعا لولد إسماعيل أبدا، لأن الله قد فضلهم على الناس جميعا، و جعل فيهم النبوة و الملك، و قد عهد إلينا موسى ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، و ليس مع محمد آية، و إنما جمعهم جمعا، و سحرهم.

و يريد أن يغلبهم بذلك، فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتى أجابوه، فقال لهم: أخرجوا الكتاب الذي بينكم و بين محمد. فأخرجوه، فأخذه حيي بن أخطب و مزقه، و قال: قد وقع الأمر، فتجهزوا و تهيأوا للقتال.

و بلغ رسول الله (صلى الله عليه و آله) ذلك، فغمه غما شديدا. و فزع أصحابه، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله) لسعد ابن معاذ، و أسيد بن حضير، و كانا من الأوس، و كانت بنو قريظة حلفاء الأوس، فقال لهما: " ائتيا بني قريظة، فانظرا ما صنعوا، فإن كانوا نقضوا العهد، فلا تعلما أحدا إذا رجعتما إلي، و قولا: عضل و القارة ".

فجاء سعد بن معاذ، و أسيد بن حضير إلى باب الحصن، فأشرف عليهما كعب من الحصن، فشتم سعدا، و شتم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقال له سعد: إنما أنت ثعلب في جحر، لتولين قريش، و ليحاصرنك رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و لينزلنك على الصغر و القماءة ، و ليضربن عنقك، ثم رجعا إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقالا له: عضل و القارة. فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " لعنا، نحن أمرناهم بذلك " و ذلك أنه كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله) عيون لقريش يتجسسون خبره، و كانت عضل و القارة قبيلتان من العرب، دخلتا في الإسلام، ثم غدرتا، فكان إذا غدر أحد ضرب بهما المثل، فيقال: عضل و القارة. و رجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان و قريش، و أخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم و بين رسول الله (صلى الله عليه و آله)، ففرحت قريش بذلك.

فلما كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و قد كان أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، فقال: يا رسول الله، قد آمنت بالله، و صدقتك، و كتمت إيماني عن الكفرة، فإن أمرتني أن آتيك بنفسي فأنصرك فعلت، و إن أمرتني أن اخذل بين اليهود و قريش فعلت، حتى لا يخرجوا من حصنهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " خذل بين اليهود و قريش، فإنه أوقع عندي ". قال: أ فتأذن لي أن أقول فيك ما أريد؟ قال: " قل ما بدا لك ".

فجاء إلى أبي سفيان، فقال له: تعرف مودتي لكم، و نصحي، و محبتي أن ينصركم الله على عدوكم، و قد بلغني أن محمدا قد وافق اليهود أن يدخلوا بين عسكركم، و يميلوا عليكم، و وعدهم إذا فعلوا ذلك أن يرد عليهم جناحهم الذي قطعه: بني النضير، و قينقاع، فلا أرى أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم رهنا تبعثونهم إلى مكة، فتأمنوا مكرهم و غدرهم. فقال له أبو سفيان: وفقك الله، و أحسن جزاك، مثلك أهدى النصائح.

و لم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم، و لا أحد من اليهود.

ثم جاء من فوره ذلك إلى بني قريظة، فقال: يا كعب، تعلم مودتي لكم، و قد بلغني أن أبا سفيان قال: نخرج بهؤلاء اليهود، فنضعهم في نحر محمد، فإن ظفروا كان الذكر لنا دونهم، و إن كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، إنهم إن لم يظفروا بمحمد لم يبرحوا حتى يردوا عليكم عهدكم و عقدكم بين محمد و بينكم، لأنه إن ولت قريش و لم يظفروا بمحمد، غزاكم محمد، فيقتلكم. فقالوا: أحسنت، نصحت و أبلغت في النصيحة، لا نخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا.

و أقبلت قريش، فلما نظروا إلى الخندق، قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك. فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه. فوافى عمرو بن عبد ود، و هبيرة بن وهب، و ضرار بن الخطاب إلى الخندق، و كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) قد صف أصحابه بين يديه، فصاحوا بخيلهم حتى طفروا الخندق إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و صار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) كلهم خلف رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و قدموا رسول الله (صلى الله عليه و آله) بين أيديهم، و قال رجل من المهاجرين- و هو فلان- لرجل بجنبه من إخوانه: أما ترى هذا الشيطان- عمرو- لا و الله ما يفلت من بين يديه أحد، فهلموا ندفع إليه محمدا ليقتله، و نلحق نحن بقومنا. فأنزل الله على رسول الله (صلى الله عليه و آله) في ذلك الوقت قوله: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } إلى قوله { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }.

فركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض، و أقبل يجول حوله، و يرتجز، و يقول:

* و لقد بححت من الندا * ء بجمعكم: هل من مبارز؟*

* و وقفت إذ جبن الشجا * ع مواقف القرن المناجز*

* إني كذلك لم أزل * متسرعا نحو الهزاهز*

* إن الشجاعة في الفتى * و الجود من خير الغرائز*

فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " من لهذا الكلب؟ " فلم يجبه أحد، فقام إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: " أنا له، يا رسول الله " فقال: " يا علي، هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل " فقال: " أنا علي بن أبي طالب " فقال له رسول الله (صلى الله عليه و آله): " ادن مني " فدنا منه، فعممه بيده، و دفع إليه سيفه ذا الفقار، و قال له: " اذهب، و قاتل بهذا ". و قال: " اللهم احفظه من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله، و من فوقه، و من تحته ".

فمر أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو يهرول في مشيه، و هو يقول:

* لا تعجلن فقد أتا * ك مجيب صوتك غير عاجز*

* ذو نية و بصيرة * و الصدق منجي كل فائز*

* إني لأرجو أن أقيم * عليك نائحة الجنائز*

* من ضربة نجلاء يبقى * صوتها بعد الهزاهز*

فقال له عمرو: من أنت؟ قال: " أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و ختنه ". فقال: و الله إن أباك كان لي صديقا و نديما، و إني أكره أن أقتلك، ما أمن ابن عمك حين بعثك إلي أن أختطفك برمحي هذا، فأتركك شائلا بين السماء و الأرض، لا حي و لا ميت! فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة، و أنت في النار، و إن قتلتك فأنت في النار، و أنا في الجنة ". فقال عمرو: كلتاهما لك- يا علي- تلك إذن قسمة ضيزى.

قال علي (عليه السلام): " دع هذا- يا عمرو- إني سمعت منك و أنت متعلق بأستار الكعبة تقول: لا يعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها، و أنا أعرض عليك ثلاث خصال، فأجبني إلى واحدة ".

قال: هات، يا علي. قال: " إحداها: أن تشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله " قال: نح عني هذا، هات الثانية.

فقال: " أن ترجع، و ترد هذا الجيش عن رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فإن يك صادقا فأنتم أعلى به عينا، و إن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره ". فقال: إذن لا تتحدث نساء قريش بذلك، و لا تنشد الشعراء في أشعارها أني جبنت و رجعت على عقبي من الحرب، و خذلت قوما رأسوني عليهم؟

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " فالثالثة: أن تنزل إلي، فإنك راكب، و أنا راجل، حتى أنابذك " فوثب عن فرسه و عرقبه، و قال: هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها. ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسيف على رأسه، فاتقاه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالدرقة، فقطعها، و ثبت السيف على رأسه، فقال له علي (عليه السلام): " يا عمرو، أما كفاك أني بارزتك و أنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير؟! " فالتفت عمرو إلى خلفه، فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) مسرعا على ساقيه، فقطعهما جميعا، و ارتفعت بينهما عجاجة، فقال المنافقون: قتل علي بن أبي طالب. ثم انكشفت العجاجة، فنظروا، فإذا أمير المؤمنين (عليه السلام) على صدره، قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فذبحه ثم أخذ رأسه، و أقبل إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و الدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، و سيفه يقطر من الدم، و هو يقول، و الرأس بيده:

* أنا علي و ابن عبد المطلب * الموت خير للفتى من الهرب*

فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): " يا علي، ماكرته؟ " قال: " نعم- يا رسول الله- الحرب خديعة ".

و بعث رسول الله (صلى الله عليه و آله) الزبير إلى هبيرة بن وهب، فضربه على رأسه ضربة فلق هامته، و أمر رسول الله (صلى الله عليه و آله) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما، فقال له ضرار: ويحك- يا بن صهاك- أ ترمي في مبارزة؟ و الله لئن رميتني لا تركت عدويا بمكة إلا قتلته. فانهزم عند ذلك عمر، و مر نحوه ضرار، و أشار على رأسه بالقناة، ثم قال: احفظها- يا عمر- فإني آليت ألا أقتل قرشيا ما قدرت عليه. فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي، فولاه.

فبقي رسول الله (صلى الله عليه و آله) يحاربهم في الخندق خمسة عشر يوما، فقال أبو سفيان لحيي بن أخطب:

ويلك- يا يهودي- أين قومك؟ فصار حيي بن أخطب إليهم، فقال: ويلكم، اخرجوا، فقد نابذكم محمد الحرب، فلا أنتم مع محمد، و لا أنتم مع قريش. فقال كعب: لسنا خارجين، حتى تعطينا قريش عشرة من أشرافهم رهنا يكونون في حصننا، إنهم إن لم يظفروا بمحمد لم يبرحوا حتى يرد محمد علينا عهدنا و عقدنا، فإنا لا نأمن أن تفر قريش و نبقى نحن في عقر دارنا، و يغزونا محمد، فيقتل رجالنا، و يسبي نساءنا و ذرارينا، و إن لم نخرج لعله يرد علينا عهدنا.

فقال له حيي بن أخطب: تطمع في غير مطمع، قد نابذت العرب محمدا الحرب، فلا أنتم مع محمد، و لا أنتم مع قريش.

فقال كعب: هذا من شؤمك، إنما أنت طائر تطير مع قريش غدا و تتركنا في عقر دارنا، و يغزونا محمد.

فقال له حيي لك عهد الله علي و عهد موسى إن لم تظفر قريش بمحمد أني أرجع معك إلى حصنك، يصيبني ما يصيبك.

فقال كعب: هو الذي قد قلته لك، إن أعطتنا قريش رهنا يكونون عندنا، و إلا لم نخرج. فرجع حيي بن أخطب إلى قريش فأخبرهم، فلما قال: يسألون الرهن. قال أبو سفيان: هذا- و الله- أول الغدر، قد صدق نعيم بن مسعود، لا حاجة لنا في إخوان القردة و الخنازير.

فلما طال على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) الأمر، اشتد عليهم الحصار، و كانوا في وقت برد شديد، و أصابتهم مجاعة، و خافوا من اليهود خوفا شديدا، و تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم، و لم يبق أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلا نافق، إلا القليل. و قد كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) أخبر أصحابه: " أن العرب تتحزب، و يجيئونا من فوق، و تغدر اليهود و نخافهم من أسفل، و أنه ليصيبهم جهد شديد، و لكن تكون العاقبة لي عليهم ". فلما جاءت قريش، و غدرت اليهود، قال المنافقون: ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا. و كان قوم منهم لهم دور في أطراف المدينة، فقالوا: يا رسول الله، تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا فإنها في أطراف المدينة، و هي عورة، و نخاف اليهود أن يغيروا عليها؟ و قال قوم: هلموا فنهرب و نصير في البادية، و نستجير بالأعراب، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلا كله. و كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، و كان أمير المؤمنين (عليه السلام) على العسكر كله بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش بارزهم ، و كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجوز الخندق، و يصير إلى قرب قريش حيث يراهم، فلا يزال الليل كله قائما وحده يصلي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه، و مسجد أمير المؤمنين (عليه السلام) هناك معروف، يأتيه من يعرفه فيصلي فيه، و هو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة النشاب.

فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه و آله) من أصحابه الجزع لطول الحصار صعد إلى مسجد الفتح، و هو الجبل الذي عليه مسجد الفتح اليوم، فدعا الله، و ناجاه فيما وعده، و كان مما دعاه أن قال: " يا صريخ المكروبين، و يا مجيب دعوة المضطرين، و يا كاشف الكرب العظيم، أنت مولاي و وليي و ولي آبائي الأولين، اكشف عنا غمنا و همنا و كربنا، و اكشف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك، و حولك، و قدرتك ". فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام)، فقال: " يا محمد، إن الله قد سمع مقالتك، و أجاب دعوتك، و أمر الدبور- و هي الريح- مع الملائكة أن تهزم قريشا و الأحزاب ".

و بعث الله على قريش الدبور، فانهزموا، و قلعت أخبيتهم، فنزل جبرئيل (عليه السلام)، فأخبره بذلك، فنادى رسول الله (صلى الله عليه و آله) حذيفة بن اليمان، و كان قريبا منه، فلم يجبه، ثم ناداه ثانيا فلم يجبه، ثم ناداه الثالثة، فقال:

لبيك يا رسول الله. قال: " أدعوك فلا تجيبني؟ " قال: يا رسول الله- بأبي أنت و أمي- من الخوف، و البرد، و الجوع.

فقال: " ادخل في القوم، و ائتني بأخبارهم، و لا تحدثن حدثا حتى ترجع إلي، فإن الله قد أخبرني أنه قد أرسل الرياح على قريش، و هزمهم ".

قال حذيفة: فمضيت و أنا انتفض من البرد، فو الله ما كان إلا بقدر ما جزت الخندق حتى كأني في حمام، فقصدت خباء عظيما فإذا نار تخبوا و توقد، و إذا خيمة فيها أبو سفيان قد دلى خصيتيه على النار و هو ينتفض من شدة البرد، و يقول: يا معشر قريش، إن كنا نقاتل أهل السماء بزعم محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء، و إن كنا نقاتل أهل الأرض فنقدر عليهم، ثم قال: لينظر كل رجل منكم إلى جليسه لا يكون لمحمد عين فيما بيننا. فقال حذيفة: فبادرت أنا، فقلت للذي عن يميني: من أنت؟ فقال: أنا عمرو بن العاص. ثم قلت للذي عن يساري: من أنت؟ قال: أنا معاوية، و إنما بادرت إلى ذلك لئلا يسألني أحد منهم من أنت.

ثم ركب أبو سفيان راحلته و هي معقولة، و لولا أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) قال: " لا تحدثن حدثا حتى ترجع إلي " لقدرت أن أقتله، ثم قال أبو سفيان لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان، لا بد من أن أقيم أنا و أنت على ضعفاء الناس. ثم قال لأصحابه: ارتحلوا، إنا مرتحلون، فنفروا منهزمين، فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه و آله)، قال لأصحابه: " لا تبرحوا ". فلما طلعت الشمس دخلوا المدينة، و بقي رسول الله (صلى الله عليه و آله) في نفر يسير ".


السابقالتالي
2