الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } * { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

ثم أخبر عن أرباب النفاق من الأعراب بقوله تعالى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ } [التوبة: 101] إلى قوله: { هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [التوبة: 104]، { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ } يشير إلى صفات النفس، فإنها بمثابة الأعراب بالنسبة إلى مدينة القلب وصفاته، وإنها تدور حول القلب؛ يعني: من أعراب صفات النفس بعضها منافق لاحتمال أن يكون بعضها منافقاً، وبعضها كافراً، وبعضها مسلماً، فالمنافق منها كالصفة الحيوانية من الشهوات، فإنها تبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس لسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهراً الحقيقة؛ لأنها تتبدل بالكلية بحيث تنزع عنها الشهوة بحيث تكون مغلوبة فيها بالسياسة، وهذا حال المنافق أن يكون ظاهره بخلاف باطنه بالرئاسة.

والكافر منها كالصفة البهيمية في طلب الغذاء من المأكول والمشروب، فإنها لا تتبدل بضدها وكالاستغناء عن الأكل والشرب؛ لحاجة الجسد إلى الغذاء لبدل ما يتحلل من الجسد، والمسلم: كالصفة السبعية والشيطانية من الغضب والكبر والعداوة والكذب والخيانة، فإنها تحتمل أن تتبدل بضدها من الحلم والتواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإسلام وترشح نور الإيمان عن القلب وانشراح الصدر بنور ربها، وهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب، ففيها بعض النفاق كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب والخيانة وخلف الوعد والغدر من النفاق، فقال: " من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ".

قوله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } [التوبة: 101] يعني: مدينة القلب وأهلها صفاته، { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } [التوبة: 101] وذلك باستيلاء صفات النفس على صفات القلب عند تصرف أنوار القلب عند تصرف ظلمات النفس وأوصافها فيها، فيظهر فيها النفاق مذبذبة بين إيمان الصفات الحميدة وكفر الصفات الذميمة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [التوبة: 101] يعني: لا يعرف هذه الأحوال أرباب علوم الظاهر، ويعرفها أصحاب الكشوف الباطنة، { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } [التوبة: 101] مرة بأحكام الشريعة، ومرة بآداب الحقيقة؛ أي: نعذبهم بتكاليف أوامر الشرع ونواهيها ونعذبهم عن الأخلاق الذميمة بدقائق تربية الطريقة عند الانفطام عن مألوفات الطبيعة.

{ ثُمَّ يُرَدُّونَ } [التوبة: 101] بجذبات اللطف والقهر، { إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيم } [التوبة: 101] عند فناء أوصافهم بتجلي العزة عن صفات اللطف والجمال، وإلى عذاب عظيم عند بقاء أوصافهم بالستر وإسبال حجبها للجلال طردا وبعدا عن حضرة الجمال.

{ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } [التوبة: 102] أي: القلب وصفاته اعترفوا بذنوب شوب صفات النفس والتلوث بها، { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً } [التوبة: 102] وهو صدق التوجه في طلب الحق والإعراض عن الباطل، { وَآخَرَ سَيِّئاً } [التوبة: 102] وهو مطاوعة النفس وهواها في بعض الأوقات، { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 102] أي: يوفقهم للرجوع إلى الحق بالكلية والإعراض عما سواه، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } [التوبة: 102] يستر بكرمه صفات القلوب، { رَّحِيمٌ } [التوبة: 102] يمحو بماء رحمته لوث شهوات النفوس.

السابقالتالي
2