الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } * { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }

ثم أخبر عن رفع الوسائط أخذاً بالحقائق بقوله تعالى: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55] إلى قوله: { تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57].

الإشارة فيها: إنه تعالى لمَّا رفع حجب الوسائط بينه وبين العباد بقوله:أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف: 54] أمرهم بالرجوع في الحاجات إليه، والتضرع في المناجات بين يديه، فقال: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، والتضرع: ما يطلع عليه الخلق، والخفية: ما يطلع عليه الحق؛ أي: تضرعاً بالجوارح وخفية بالقلوب، وفيه معنى آخر: ادعوا من ربكم بربكم تضرعاً قياماً بأداء حق العبودية وخفية بمطالعة حق الربوبية، { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [الأعراف: 55] الاعتداء في الدعاء: طلب الغير منه والرضا بما سواه، { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 56] في أرض القلوب، { بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [الأعراف: 56]؛ أي: بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط بينه وبين القلوب وفساد القلوب في رؤية غير الحق.

ويقال: من إفساد القلوب بعد إصلاحها إرسالها في أودية المنى بعد إمساكها عن متابعة الهوى، ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، { وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } [الأعراف: 56]؛ أي: لا تدعوا أحداً غيره في الخوف والرجاء فإنه الذي يجيب ويرجى؛ لأنه الضار والنافع والمعطي والمانع والمعز والمذل، وأيضاً { وَٱدْعُوهُ خَوْفاً } من الانقطاع، { وَطَمَعاً } في الاصطناع، وأيضاً: خوفاً من الاثنينية، وطمعاً في الوحدة.

{ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ } [الأعراف: 56] بذل هذه الملتمسات، { قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56] الذين يذوقون الله في الطاعات؛ أي: يعبدونه طمعاً فيه لا منه، { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الأعراف: 57]؛ أي: رياح العناية فينشر سحاب الهداية، { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف: 57]؛ أي: كل قلب ميت، { فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ } [الأعراف: 57] المحبة، { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } [الأعراف: 57]؛ وهي المشاهدات والمكاشفات وأنواع الكمالات، { كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ } [الأعراف: 57] موتى القلوب من قبور الصدور، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57]؛ أي: تذكَّروا أيام حياتكم في عالم الأرواح؛ إذ كنتم تردون حياض الأنس ورياض القرب عند حظائر القدس.

ثم أخبر عن البلد الطيب بقوله تعالى: { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } الإشارة فيها: أن البلد الطيب هو القلب الحي الذي أحياه الله،وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [الأنعام: 122]؛ أي: يعامل الخلق بأنوار أخلاقه الحميدة، { وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [الأعراف: 58]، يشير به إلى: أرض النفوس الأمارة التي لا يخرج منها إلاَّ الأخلاق الذميمة والأفعال الرديئة، فمن كان حياً بنور الله ينعكس نور قلبه على نفسه، فتنورت النفس فتبدلت أوصافها بأوصافه وتلاشت ظلمتها بنور القلب فتطمئن إلى ذكر الله وطاعته، كما هو من أوصاف القلوب كقوله تعالى:أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد: 28]، وإن كان القلب ميتاً والنفس حية فظلمات صفات النفس تطل على القلب، وتبدل صفاته بصفاتها عند استيلاء صفاتها عليه فتجعل اطمئنانه بالدنيا وما فيها.

{ كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } [الأعراف: 58]؛ أي: تصرف النفوس أوصافها إلى أوصاف القلب وأخلاقه، { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } [الأعراف: 58]؛ أي: يعرفون قدر إنعامنا وأفضالنا في تصريف أوصاف النفس إلى أخلاق القلب، وتصريف أخلاق القلب إلى أنوار أخلاقنا فتشكروننا على ما أظهرنا من آياتنا.