{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الأعراف: 14] فأجابه بما عليه ولم يجيبه بما له، فأجابه بأن يكون من المنظرين، { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [الأعراف: 15]؛ ليكون هذا في الإنظار والإمهال وبالأعلمية ما يزيد في شقوته وشدة عذابه وإبعاده، ولم يجيبه بألاَّ يذيقه ألم الموت، قال تعالى:{ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } [ص: 81] في موضع آخر. ثم أخرج منه ما كان مودعاً في حق قهره من الجهالة والضلالة بالأرض والاعتراض علينا، أو مكايده مع الحق تعالى حتى قال: { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]، فلم يكن حالة الإغواء إلى الله منه من نظر التوحيد ورؤية الأمور من الله تعالى؛ وإنما كان إثباتاً للحجة ومعارضة مع الله في الإغواء كما قال:{ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82]، وقال: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } ، فلو كان من نظر التوحيد لم يكن اللعين مدَّعياً الإغواء والإضلال، ولو كان واقعاً عن الصراط المستقيم عن قوله: { صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } حقيقية الذي هو الصراط إلى الله لم يتعد عن الصراط المستقيم بنفسه ولم يقعد الآخرين بل يدعوهم إليه، ولكن من نتائج القهر يجري الله على بعضهم أفعالاً وأقوالاً تكون هي حجة عليهم. ثم أخبر عن بيان [جهات عداوتهم] بقوله: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [الأعراف: 17]، الإشارة فيها: أن الشيطان لا يأتي من جهة من الجهات إلاَّ وللنفس الإنسانية بقية من الصفة [التي] تتعلق بتلك الجهة، واعلم أن للنفس في كل جهة من الجهات حظوظاً مختلفاً بحسب صفاتها؛ ولذلك فسر كل واحد من المفسرين قوله: { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ }؛ بمعنى آخر نظرهم على بيان صفة النفس التي هي مدخل الشيطان فقال: { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قِبِل الحسد فأزين لهم الحسد على الأكابر من العلماء والمشايخ في زمانهم؛ ليطعنوا في أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم وتنكرون عليهم فيضلوا ويعلموا الخلق بإغوائهم إظهاراً للخيرية لأنفسهم، كما كان حال إبليس مع آدم عليه السلام، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } ومن خلفهم من قِبَل المعصية، فآمرهم؛ ليطعنوا في المتقدمين من الصحابة والتابعين والعلماء والمشايخ الماضيين ويقدحوا فيهم ويبغضوهم ويفتروا عليهم ويرون عليهم ما لا يرون. { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } [الأعراف: 17] من قِبَل إفساد ذات البيِّن؛ فأفسد ما بينهم وبين الإخوان في الدين وألقى بينهم العداوة والبغضاء، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } [الأعراف: 17]، من قِبَل ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وأصدقائهم؛ فأمرهم بالخيانة معهم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمكر والخداع مع عامة المسلمين وفي معاملاتهم. وأيضاً: { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قِبَل الرياء والعجب وأفسد عليهم طاعاتهم، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من قِبل الصلف، فاذكرهم ما صدر منهم من أعمال البر في الأيام السالفة؛ ليباهوا بها على الإراءة ويتفاخروا بها رياء وسمعة فيحبط أعمالهم، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } من نيل الادعاء فأزين لهم الدعاوي كالأحوال والمقامات من غير المعاني وآمرهم بإظهار حالات في مواجيد لم تكن فيهم، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } من قِبل الافتراء، فسوَّل لهم المرئيات بالوقائع والكشوف والمقامات الكاذبة.