الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } * { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } * { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ }

يا طالب سر الملك والملكوت اعلم أن سرهما في يدي مالك الملك والملكوت، كما يقول في كتابه الكريم:بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [يس: 83]، و { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } [الملك: 1]، والملك إشارة إلى: عالم الناسوت، واليد إشارة إلى: عالم الجبروت، { وَهُوَ } إشارة إلى: عالم اللاهوت، فتبارك وتعالى الذي بيده الملك والملكوت أن تشبه يده الأيدي، وتنزهت وتقدست ذاته أن تكون معطلة عن الصفات الحسنى؛ ولكن ينبغي أن يكون السالك سنياً لا ظاهرياً، ولا باطنياً، ولا مشبهياً، ولا معطلياً ليعرف سر اليد المذكورة في كلام الرب، وسر ما قال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الطويل: " كلتا يدي الرحمن يمين " ، ولا يمكن لك المعرفة بهذا الحديث إن كنت جامداً بليداً؛ فأشعل نار الذكر حتى تذهب جمودتك وبلادتك، وانظر بعد ذلك في بدائع الصنائع لتفهم ما فيه من حقائق الدقائق، ثم جئ حتى أقول معك بعض أسراره مما يتعلق ببطن القرآن.

واعلم أن اليمين واليسار يطلق في عالم الجهات، ولا جهة في عالم الحق، ولا زمان، ولا مكان، ولا خلاء من الوجود، ولا ملاء من الجسم الكلي، وكل شيء يرى بعين الحس في الملك فتبصره ببصيرة العقل في الملكوت قائم به، وهو موجد حياة كل الأحياء منه، وقيام كل الأشياء به،كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26] ويبقى وجهه.

وإطلاق اليمين في الحديث كان لأجل اليمن والبركة، وإظهار سر التوحيد، وإشارته إلى " كلتا يديه " إشارة إلى: يدي الظاهرة والباطنة؛ يعني: بيد إرادته الباطنة باطن ملكوت كل شيء، وبيد قدرته الظاهرة ظهور الملك، وبعد هذا تحرك سلسلة حد القرآن مما أمرت بستره فأدرج.

واعلم أنه على كل شيءٍ قدير كما يقول في كتابه الكريم: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1] يقدر على الإبداع، والإيجاد، والإبقاء، والإفناء، { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2]، ذكر الموت والحياة؛ لأن القدرة فيهما أظهر، وقدم الموت على الحياة؛ لأنه [سابقتكم]أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } [البقرة: 28]؛ يعني: كنتم جاهلين فأحياكم بالعلم، وكنتم في بطون أمهاتكم موتى فأحياكم بنفخ الروح، وكنتم موتى في القالب فأحياكم بنور الإيمان، وكنتم موتى في البرزخ فأحياكم يوم القيامة، وكنتم موتى في النكرة فأحياكم بالمعرفة، وكنتم موتى من مشاهدة وجه الرب فأحياكم بمشاهدته للابتلاء حتى تتم مظاهر لطفه وقهره، وحتى يرى { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] في الاختيار الحياتي الذي أعطاه ربكم لكم لتكونوا خلائف الأرض، أتشتغلون في عالم اختياركم بذكر مولاكم؟ أم تبتغون هواكم وتغفلون عن ذكر مولاكم؟ أتتركون الدنيا الفانية للآخرة الباقية؟ أم تشتغلون بالدنيا لاستيفاء حظوظكم العاجلة الشهوية؟ أم تشتغلون بتزكية النفس عن الكدورات الحاصلة لها في دار الفناء؟ أم تتركونها مكدرة مظلمة صاعد عليها كل ساعة دخان الهوى؟ أتجتهدون في تصفية السر وتحلية الروح بالأخلاق والصفات الحسنة؟ أم تتركونها ملوثة بقاذورات الأخلاق الشيطانية والصفات البهيمية؟ أتقبلون على تصقيل القلب ليكون مرآة لوجه الرب وهو المقصود من إيجاد الموجودات؟ أم تعرضون عنه ليتأثر فيه طبع [الطغي] { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [الملك: 2]؛ يعني: هو غالب على أمره أن يعذب المقصر في تقويم القالب وتصقيل القلب وإقامة المرآة محاذاة وجه الرب في عالم التوجه، غفور لمن يقوِّم القالب على وفق ظاهر الشرع بالسياسة، وتصقيل القلب على قانون حكمة الطريقة بالطهارة، ويقيم المرآة المقوِّمة المصقلة محاذاة وجه الرب بالطهارة، والله تعالى أرسل جميع الرسل إلى الخلق ليعلمهم بالسياسة أمر التقويم، وبالطهارة أمر التصقيل، وبالعبادة أمر التوجه؛ لترى في المرآة ذاته وأفعاله وآثاره كما يقول تعالى:

السابقالتالي
2 3