وقد وسم بكي الهجران والقطيعة، فآل أمره إلى أنه { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً } [الجاثية: 9]، من عالم رباني { ٱتَّخَذَهَا هُزُواً } [الجاثية: 9]، قليل العناد وتأوله على ما نفع له من وجود المراد من دون تصحيح بإسناد، فهؤلاء: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [الجاثية: 9] مذل، وقد يكاشف حاله من بواطن قلبه بتعريفات من الغيب، لا يبدو فيها ريب ولا يتخالجه منها شك فيما هو به في حاله، فإذا استهان بها وقع في ذل الحجة وهوان الفرقة. { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } [الجاثية: 10] جهنم الحرص والأمل، { وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ } [الجاثية: 10] بالسوء وبالحرص { شَيْئاً } [الجاثية: 10]، القلوب { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ } [الجاثية: 10] من الدنيا وأهلها، { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الجاثية: 10]، وهو هجران إله عظيم { هَـٰذَا هُدًى } [الجاثية: 11]؛ أي: هذا الذي ذكرنا من الآيات والدلالات والإشارات وأسباب الهداية لمن أراد الله به خيراً يسمعهم، { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ } [الجاثية: 11] أن أعرضوا عنها وأنكروا عليها، { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ } [الجاثية: 11]، وهو نظر قهر الحق بالقطيعة، وهو { أَلِيمٌ } [الجاثية: 11] مؤلم حقاً. ثم أخبر عن كرمه مع العبد بأنواع نعمه بقوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } [الجاثية: 12]، يشير إلى أنه تعالى مسخر بحر العدم؛ لتجري فيه فلك الوجود بأمره، وهو أمر{ كُنْ } [البقرة: 117]، والحكمة في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك، سخر البحر والفلك له وسخره لنفسه؛ ليكون خليفة مظهراً لذاته وصفاته تبارك وتعالى نعمة منه وفضلاً؛ لإظهار الكنز المخفي، فبحسب كل مسخر من الجزيئات والكليات يجب على العبد شكر، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره ولا يستعمله في هوى نفسه، وله أن يعتبر من البحر الصوري، والذين يركبون البحر فربما تسلم سفينتهم وربما تغرق، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي بهم رياح المشيئة، مرفوع لهم شراع التوكل من شيء في البحر بمجرى اليقين، فإن هبت رياح العناية تحث السفينة إلى ساحل السعادة، وإن هبت نكباء الفتنة لم يبق بيد الملاح شيء غرقت في لجة الشقاوة، فعلى العبد أن يكون ابتغاؤه فضل الله، ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم، وذلك قوله: { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الجاثية: 12]. وبقوله: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13]، يشير إلى أن السماوات والأرض وما فيهن خلقت للإنسان، ووجودها تبع لوجوده، وناهيك عن هذا المعنى إن الله تعالى أسجد ملائكته لآدم عليه السلام، وهذا غاية التسخير وهم أكرم وأعز مما في السماوات والأرض، ومثال هذا أنه لما أراد أن يخلق ثمرة خلق شجرة، وسخرها للثمرة لتحمل، فالعالم بما فيه شجرة وثمرتها الإنسان؛ ولعظم هذا المعنى قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الجاثية: 13]؛ أي: في هذا المعنى دلالات على شرف الإنسان، وكماليته { لِّقَوْمٍ } لهم قلوب منورة بنور الإيمان والعرفان، { يَتَفَكَّرُونَ } بفكر سليم.