الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ حـمۤ } * { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } * { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } * { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } * { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ } * { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } * { يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

{ حـمۤ } [الجاثية: 1]، يشير بالحاء إلى حياته وبالميم إلى مودته، كأنه قال: بحياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أحب علي من لقاء أحبائي، ولا أعز وأحب على أحبائي من لقائي، { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ } [الجاثية: 2]؛ أي: هذا الكتاب تنزيل { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجاثية: 2]، على أوليائه وأحبائه.

ثم أخبر: { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الجاثية: 3] الصورية والمعنوية { لأيَٰتٍ } [الجاثية: 3]، شواهد الربوبية لائحة، وأدلة الإلهية واضحة { لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية: 3] المحبين الذين صحا فكرتهم عن سكر الغفلة وجبت سيرهم في محال العبرة، وصفاء قلبهم عن دنس البشرية، وتجلي روحهم بإطلاق الربوبية؛ فحظوا بحقائق الوصلة.

وبقوله: { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 4]، يشير إلى أن العبد إذا أمعن نظره في حسن استعداده ظاهراً وباطناً، وأنه خلق في أحسن تقويم يرى استواء قده وقامته وحسن صورته وسيرته واستكمال عقله وتمام تميزه، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه، ثم فكر فيما عداه من الدواب في أجزائها وأعضائها وأوصافها وطبائعها والتمييز والعلم، ثم وقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البرية من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم ثم في الإيمان، ومن الملائكة في حمل الأمانة، وتعلم علم الأسماء، ووجوه لخصائص أهل الصفوة من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات والمخافيات وأنواع التجليات، وما صار به الإنسان خليفة الله ومسجود ملائكته المقربين، عرف تخصيصهم بمناقبهم وانفرادهم بفضائلهم؛ فاستيقن أن الله كرمهم، وعلى كثير من المخلوقات فضلهم، وإنهم محمولو العناية في بر الملك وبحر الملكوت.

وبقوله: { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ } [الجاثية: 5]، يشير إلى اختلاف ليل البشرية ونهار الروحانية، وما أنزل الله تعالى من الواردات الربانية من سماء الأرواح، ومن غيث الرحمة رزقاً للقلوب؛ { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ } [الجاثية: 5] أرض القلوب { بَعْدَ مَوْتِهَا } [الجاثية: 5]، عند استيلاء أوصاف البشرية عليها في أوان الولادة إلى حد البلاغة، إذا كانت محرومة عن غداء تعيش به، وهو أوامر الشريعة ونواهيها المودع فيها نور الإيمان، الذي هو حياة القلوب، { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } [الجاثية: 5]، وهي رياح نفحات الحق تعالى { ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الجاثية: 5]، التعرض لنفحات ألطاف الحق.

وفيه إشارة أخرى: أن الله تعالى جعل العلوم الدينية كسبية مصححة بالدلائل، وموهبية محققة بالشواهد؛ فمن لم يستبصر بهما زلت قدمه عن الصراط، ووقع في عذاب الجحيم، فاليوم في ظلمة الحيرة والتقليد وفي الآخرة في الوعيد بالتخليد.

وبقوله: { تَلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ } [الجاثية: 6]، يشير إلى أن الإيمان الحقيقي لا يمكن حصوله في القلوب إلا بالله وكتابته في القلوب، وبإراءته المؤمنين آياته، وإلا فلا يحصل بالدلائل المنطقية ولا بالبراهين العقلية؛ فافهم جدّاً.

{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ } [الجاثية: 7] مكذب { أَثِيمٍ } [الجاثية: 7] معرض عن الحق، { يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ } [الجاثية: 8]، في الظاهر؛ إذ { تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ } [الجاثية: 8]، على الإنكار والجحود { مُسْتَكْبِراً } [الجاثية: 8]، عن قبول الحق، يسمع الباطن { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } [الجاثية: 8]، فمن استمع باستماع الحق والفهم، واستبصر بنور التوحيد فاز بذخر الدارين، وتصدى لعز المنزلين، ومن تصامم بحكم الخذلان والغفلة؛ { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الجاثية: 8] بوقوعه في وهدة الجهل.