الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } * { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } * { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } * { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } * { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }

وبقوله: { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف: 33] يشير إلى الجبلة الإنسانية التي طبعت على حب الدنيا وزخارفها واستيفاء شهواتها؛ لأن الإنسان خلق منها، وله نفس حيوانية مائلة إلى مراتع الدنيا وزخارفها، فإن الكفر والجهل والظلم مركوز في طبيعتها؛ لأنها منشأ الأوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية، فلو خليت إلى طبعها ووافق لها مقتضاها ومنتهى هواها من الدنيا وزخارفها لمالت إليها، واستغرقت في بحر غفلاتها، ولم تتضرع إلى طاعة ربها، وعبودية خالقها، وطلب معرفته، وإن الله تعالى بكمال حكمته لم يخلق الإنسان على طبيعة واحدة في الطاعة والعبودية؛ لأنه تعالى خلق الملائكة عل هذه الطبيعة لتكون مظهراً لصفات لطفه، كذلك لم يخلقهم على طبيعة واحدة في الكفر والتمرد؛ لأنه تعالى خلق الشياطين على هذه الطبيعة؛ ليكونوا مظهراً لصفات قهره، وإنما خلق الإنسان أطواراً مختلفة، ليكون بعضهم مظهراً لصفات لطفه كالملائكة، وبعضهم مظهراً لصفات قهره كالشياطين، وبعضهم مظهراً لصفات لطفه وقهره جميعاً في سروَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31] وخصوصيتهم بهذه الكرامة من بين سائر المخلوقات وهم خلفاء الله في أرضه وهم زبدة العالم وخلاصته، وهم الذين خلقوا لإظهار الكنز المخفي ومعرفته، والعالم بما فيه تبع لوجودهم، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وهُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [البينة: 7]، وهم الذين يحبهم ويحبونه، ولولا أن الله تعالى أخرجهم من ظلمات طبيعتهم، وهداهم إلى نور ذاته وصفاته بجذبات عنايته لا يجذعوا بزخارف الدنيا إذ جعل الله لهم من الزخرف بيوتاً { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } [الزخرف: 34]، { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 35] لا دوام له ولا حاصل الدائمة والقربة اللازمة عند ربك؛ أي:فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55] للمتقين الذين اتقوا ربهم عما سواه.

ثم أخبر عن تارك الذكر والفكر بقوله تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [الزخرف: 36] يشير إلى من أعرض عن الله بالإقبال على الدنيا { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [الزخرف: 36] وإن أصعب الشياطين نفسك الأمارة بالسوء، { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36] ملازم لا تفارقه في الدنيا والآخرة، فهذا جزاء من ترك المجالسة مع الله بالإعراض عن الذكر فإنه يقول: " أنا جليس من ذكرني " فمن لم يعرف قدر خلوته مع الله، وحاد عن ذكره، وأخلد إلى الخواطر النفسانية الشيطانية سلط الله عليه من يشغله عن ربه وصرفته سطوات الأنوار الإلهية عنه، ومن لم يعرف قدر فراغ قلبه، واتبع شهوته وفتح بابها على نفسه بقى في يد هواه أسيراً غالباً عليه أوصاف شيطنة النفس وهذا تحقيق قوله: { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } [الزخرف: 37]؛ أي: عن سبيل الله بالشبهات التي توقعهم في ضلالات البدع والأهواء، { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الزخرف: 37] الذي سولت له نفسه أمراً فيتوهم أنه على صواب، ثم يحمل قرينة السوء على موافقته في باطله ويدعي أنه حق فقد أضر بنفسه وبغيره.