ثم استثنى منهم من كان كفره ونفاقه عارية، وروحه في أصل الخلقة خلق في المؤمنين، ثم بأدنى مناسبات في المجازات بين روحه وأرواح الكافرين والمنافقين ظهر عليه من نتائجها موالاة معلومة مع القوم أياماً معلومة مع القوم أياماً معدودة، فما أفسدت صفاء روحانيته بالكلية، وما أنسد منفذ قلبه إلى عالم الغيب فهبت له من وهب العناية نفحات ألطاف الحق، ونبهته عن نوم الغفلة، ونبهته عن الرجوع إلى الحق بعد التمادي في الباطل، ونودي في سره بأن لا نصير لمن يختار الأسفل، ولا يخرج منه { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } [النساء: 146] وندموا على ما فعلوا، ورجعوا عن تلك المعاملات الردية، { وَأَصْلَحُواْ } [النساء: 146] ما أفسدوا من حسن الاستعداد، وصفاء الروحانية بترك الشهوات النفسانية، والحظوظ الحيوانية، { وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ } [النساء: 146] بحبل الله استعانة على العبودية، { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } [النساء: 146] لله في الطلب لا يطلبون منه إلا هو ثم قال تعالى: من قام بهذه الشرائط { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 146]؛ يعني: في صف أرواحهم خلق روحه لا في صف أرواح الكافرين، { وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 146]، التائبين ويتقرب إليهم على قضية " من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً وقال من أتاني يمشي أتيته هرولة " ، وهذا هو الذي سماه { أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 146] والله أعظم. ثم أخبر عن كمال فضله وجلال عدله بقوله تعالى: { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [النساء: 147]، والإشارة فيها: إن الله عز وجل يذكر العباد المؤمنين من نعمة السابقة منها: إخراجهم من العدم ببديع فطرته، ومنها: إنه خلق أرواحهم قبل خلق الأشياء، ومنها: إنه خلق أرواحهم نورانية بالنسبة إلى أن خلق أجسادهم ظلمانية، ومنها: إن أرواحهم لما كانت بالنسبة إلى نور القدم ظلمانية رش عليهم من نور القدم، ومنها: لما أخطأ بعض الأرواح ذلك النور وهو أرواح الكفار والمنافقين فقد أصاب أرواح المؤمنين، فيقول: { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [النساء: 147]، هذه النعمة التي أنعمت بها عليكم من غير استحقاق منكم، فإنكم إن شكرتم هذه النعمة برؤيتها ورؤية المنعم بها فقد آمنتم بي ونجوتم من عذابي وهو ألم الفراق، فإن حقيقة الشكر رؤية المنعم، والشكر على وجوده أبلغ من الشكر على وجود النعم قال:{ وَٱشْكُرُواْ لِي } [البقرة: 152]؛ أي: أشكروا لوجودي، { وَكَانَ ٱللَّهُ } [النساء: 147]، في الأزل { شَاكِراً } [النساء: 147]؛ لوجوده، ومن شاكراً لوجود أوجد الخلق بجوده، { عَلِيماً } [النساء: 147] بمن يشكر وبمن يكفر، فإعطاء جزاء الشاكرين قبل شكرهم؛ لأنه مشكور وأعطى جزاء الكافرين قبل كفرهم؛ لأن الكافر كفور. ثم أخبر عن محبة المظلوم بقوله تعالى: { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ } [النساء: 148]، الإشارة فيها: إن الله تعالى { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [النساء: 148] من العوام، ولا من التحدث مع النفس من الخواص، ولا من الخطرة التي يخطر بالبال من الأخص من القول، { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء: 148] تبعاً من دواعي البشرية من غير اختيار وبابتلاء من اضطرار، وأيضاً { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [النساء: 148]، إفشاء بأسرار الربوبية وإظهار المواهب الإلوهية، وأيضاً { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [النساء: 148]، إفشاء بأسرار الربوبية بكشف القناع من مصنوعات الغيب، ومكنونات غيب الغيب، { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء: 148] بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس عقار الجمال والجلال فأضطر إلى المقال، فقال باللسان الباقي لا باللساني الفاني: أنا الحق سبحاني، { وَكَانَ ٱللَّهُ } [النساء: 148] في الأزل { سَمِيعاً } [النساء: 148] لمقالهم، { عَلِيماً } [النساء: 148] قبل أداء مالهم.