الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } * { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } * { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } * { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } * { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

ثم أخبر عن سبأ بقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } [سبأ: 15] يشير إلى سبأ السر في مساكنهم آية من آيات الله والآية هي { جَنَّتَانِ } أي: جنة الروح عن يمين السر وحية القلب عن شمال السر، وذلك لأن السر لطيفة خلقت من بين الروح والقلب فما يرد من فيض الروح وداود الحق تعالى يصل إلى السر، ومنه يرد إلى القلب وما يصدر من القلب من أنوار الذكر والطاعات أو ظلمة أوصاف النفوس في معاملاتها يصعد إلى السر، ومن السر يصعد إلى الروح فالسر بين هاتين الجنتين في رغد من العيش وسلامة من الحال، فأمر بالصبر على العاقبة والشكر على النعمة.

{ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } [سبأ: 15] بلدة الإنسانية قابلة لبذر التوحيد وهو كلمة لا إله إلا الله { وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ: 15] يستر عيوب عباده بنور معرفته ويغفر ذنوبهم لعزة معرفته { فَأَعْرَضُواْ } [سبأ: 16] عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء وكفروا النعمة وتعرضوا للنقمة وضيقوا الشكر فبدلوا وبُدل لهم الحال { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } [سبأ: 16] سيل سطوات قهرنا { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ } [سبأ: 16] الشجرتين بأشجار الإيمان والإيقان والتقوى والصدق والإخلاص والتوكل والأخلاق الحميدة { جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ } [سبأ: 16] من الكفر { خَمْطٍ } [سبأ: 16] من النفاق { وَأَثْلٍ } [سبأ: 16] من الشك.

{ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [سبأ: 16] من الأوصاف الذميمة { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } [سبأ: 17] أي: بما غرسوا سراً في بستاني القلب والروح أشجار هذه الأخلاق السوء { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [سبأ: 17] أي: وهل تثمر الأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة؟ فما غرسوا إلا بما استوجبوا وما حصدوا إلا ما زرعوا، وما وقعوا إلا في الحفرة التي حفروا، كما قيل: " يداك أوكتا وفوك نفخ ".

وبقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } [سبأ: 18] يشير إلى مقامات القرب وجوار رب العزة والمنازل المتصلة بعضها ببعض إلى الحضرة من التوبة والزهد في الدنيا والتوكل وتزكية النفس وتصفية القلب وتحلية الروح { وَقَدَّرْنَا فِيهَا } [سبأ: 18] أي: في هذا المثال { ٱلسَّيْرَ } [سبأ: 18] إلى الله وقلنا لهم { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ } [سبأ: 18] أي: السير في ليل البشرية { وَأَيَّاماً } [سبأ: 18] أي: السير في أيام الروحانية آمنين في خفارة الشريعة ودراية المتابعة فما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم والإصرار على غيهم وطغيانهم ومن خشية النفس وركاكة العقل مالوا إلى الدنيا ورغبوا في شهواتها، وبجهلهم طلبوا البعد عن الحضرة في عبارة: { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19] وتحقيق هذه الإشارة طلب الدنيا وشهواتها هو طلب البعد عن الله وعن حضرته { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } [سبأ: 19] بما مالوا إلى الدنيا.

{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } [سبأ: 19] عبرة للعالمين وتنبيهاً للراغبين؛ لئلا نقطع عليهم الدنيا بما فيها طريق الطلب وسبيل الرشاد إلى الله عز وجل { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [سبأ: 19] أي: مزقناهم في أودية الهلاك لكل فرقة دركة من دركات جهنم البعد { إِنَّ فِي ذَلِكَ } [سبأ: 19] أي: في هذه القضية { لآيَاتٍ } [سبأ: 19] دلالات { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } [سبأ: 19] على ترك الدنيا وشهواتها { شَكُورٍ } [سبأ: 19] لنعمة عصمة الحق تعالى إياه وتوفيقه للعبودية.