ثم أخبر عن بعض أهل الكتاب بالأمانة، وبعضهم بالخيانة بقوله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران: 75]، إشارة في الآيتين: إن من أهل القصة من تأمنه امتحاناً بكثير من الدنيا يؤده إليك بالخروج عن عهدته، وعدم الالتفات به إليه وقطع النظر عنه، { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران: 75]؛ [لتمكن] الحرص، وغلبة الهوى، وخسة النفس، وركاكة العقل، ودناءة الهمة، { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [آل عمران: 75]، بمطالبة الحقوق منه إخباراً { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ } [آل عمران: 75]، بسوء النفس وإلقاء الشيطان { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [آل عمران: 75]، من مباشرة الدنيا ومعاشرة الخلق، خرج ولا يحجبنا عن الله تعالى هذا التصرف والالتفات { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ } [آل عمران: 75]، بهذه المقالة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 75]، عن أنفسهم هذه المحالة، ويجترون على الله ويفترون. { بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ } [آل عمران: 76]، من الله الذي دهاهم في الميثاق بأن لا يعبدوا إلا الله، ولا يطلبوا منه إلا هو، { وَاتَّقَى } [آل عمران: 76]، عن غير الله بالله { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 76] به عن غيره. واعلم أن أهل الكتاب الحقيقي في الحقيقة هم أهل هذه القصة، كما قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر: 32]،{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص: 47]، فافهم جيداً. ثم أخبر عن اشتراء أهل الاجتراء بقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [آل عمران: 77]، إشارة في الآيتين: إن الذين يشترون بعهد الله الذي عاهدهم الله يوم الميثاق في التوحيد وطلب الوحدة، وإيمانهم التي يخلقون بها هاهنا ثمناً قليلاً من متاع الدنيا وزخارفها، مما يلائم الحواس الخمس والصفات النفسانية { أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 77]، الروحانية من نسيم روائح الأخلاق الربانية { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 77]، تقريباً وتكريماً وتفهيماً { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [آل عمران: 77]، بنظر العناية والرحمة فيرحمهم { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } [آل عمران: 77]، عن الصفات التي يستحقون بها دركات جهنم، ولا يزكيهم عن الصفات الذميمة التي هي وقود النار إلى الأبد، فلا يتخلصون منها أبداً { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 77]، فيما لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم. { وَإِنَّ مِنْهُمْ } [آل عمران: 78]، من مدعي أهل المعرفة { لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ } [آل عمران: 78]، بكلمات أهل المعرفة { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ } [آل عمران: 78]؛ أي: من أهل المعرفة { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } [آل عمران: 78]، الذي كتب الله في قلوب العارفين، { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } [آل عمران: 78]، بإظهار الدعوى عند فقدان المعاني { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 78] ولا يعلمون،