الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } * { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } * { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

ثم أخبر عن تعجب مريم من أمر من بشرها بما بشرها ولم يمسها البشر بقوله تعالى: { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ } [آل عمران: 47]، الإشارة: إن الله تعالى خلق إظهاراً للقدرة آدم من تراب بلا أب، وخلق حواء بلا أب ولا أم، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب، حتى قالت: { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } [آل عمران: 47]؛ يعني: في الأزل { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47]، في الحال، وقوله تعالى كلام أزلي يتعلق بالإرادة الأزلية على وفق الحكمة القديمة بالشيء عند التكوين، فيكون الشيء كما شاء متى شاء، كما تعلق بعيسى عليه السلام لقوله تعالى:إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59]، { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [آل عمران: 48]، { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 49]، من غير واسطة، كماوَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31].

واعلم أن الروح الإنساني؛ الذي هو خليفة الله في الأرض معلم من ربه واستخلفه العلم والحكمة والكتابة أو القراءة، بل هو قابل أنوار جميع الصفات خلافة عنه، حتى القدرة على الخلق والأحياء، والإبراء والإنباء، وغير ذلك من الآيات التي هي من نتائج القدرة، ثم إذا تعلق بالقالب المنشأ من العناصر الأربع، وحجب الظلمات المنشأ من شهوات الأبوين، احتجب عن القلوب أنوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية، وإن كان الروح روح النبي صلى الله عليه وسلم من حجب الظلمات إلى أنوار الصفات، كما قال تعالى:يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة: 257]، فيصير في الخلافة قابل أنوار تلك الصفات بقوة الاستعداد الروحاني والجسماني، فيظهر على النبي صلى الله عليه وسلم آيات المعجزات وعلى الولي آيات الكرامات، فلما كان روح عيسى عليه السلام وذرة طينة السعي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام محبته عند الله تعالى ولم ترد إلى ظهره حتى ألقاها إلى مريم بتوليه من غير شوب بظلمات شهوات الأبوين؛ ولهذا سمي - روح الله - لأنه كان قابل أنوار الصفات في بدء أمره وحالة طفوليته، ويكلم الناس في المهد وكهلاً، ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل من غير تعلم، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ويبرئ الأكمة والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وكذلك جميع الآيات الظاهرة منه، كما قال تعالى: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 49]، بأن الله هو مقدر هذه الأسباب ومدبرها ومسببها، وكان عيسى عليه السلام بهذا الاستعداد { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [آل عمران: 50]، ومحلاً لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم وجاءهم الآيات الدالة على رسالته، وقال لهم: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [آل عمران: 50]؛ أي: اتقوا معاصيه، وأطيعوا أمري، { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي } [آل عمران: 51]، خلقني مستعداً؛ لإظهار هذه الآيات { وَرَبُّكُمْ } [آل عمران: 51]، خلقكم عاجزون عنها { فَٱعْبُدُوهُ } [آل عمران: 51]، بالواحدانية من غير الشرك به { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [آل عمران: 51]، توصلكم الله إليه.