الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ } * { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

ثم أخبر عن المؤمن المقلد أنه هو الذي يريد العقبى بقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ } [آل عمران: 145]، إشارة في الآية: إنه لا يكون للنفس أن تموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية ويتخلص منها بطبعها إلا بإذن الله تعالى وأمره ونظر عنايته وجذبه فضله ورحمته، كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس، فكذلك ظلمة ليل النفس لا يغيب إلا بإشراق أنوار الربوبية، كما قال:وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [الزمر: 69] { كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً } أي: كتابة من الله مؤجلة بوقت تعينه ومشيئته، كما قال تعالى:كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 22]؛ أي بقلم العناية من نور الهداية.

ثم اثبت للعبد كسباً في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله تعالى: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران: 145]، والإشارة فيه: إن ثواب الدنيا هو أنواع الكرامات التي خص الله تعالى بعض خواصه في الدنيا من العلوم اللدنية الربانية، والكشوف والشهود الروحانية النورانية، وغيرها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أولئك الذين نفذ الله لهم الوعد، كما قال الصوفي ابن وقته في معناه:
أنشدوا خليلي هل أبصرتما أو سمعتما   بأكرم من مولى تمشي إلى عبد
أتى زائراً من غير وعد وقال لي   أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد
يعني: من كانت همته في الطلب التبتل إلى الله تعالى بالكلية والتوحيد إليه بخلوص النية وصفاء الطوية، ويقطع بقدم الصدق مفاوز البشرية، تستقبله ألطاف الربوبية وتنزله مقام العندية قبل خروجه بالصورة عن الدار الدنيوية؛ { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 145]؛ يعني: من كان مشربه من الأعمال لا من الأحوال، ولا يزعجه الشوق المبرح عن مألوفات الطبع، فيسير بقدم الشرع ومقصده نعيم الجنان لا بمقصوده يوجه به، يدل على هذا التصريح قوله تعالى:رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]، والحسنة ما أشرنا إليها في معنى الثواب، وحمل الثواب على هذا المعنى أولى من حمله على معنى إرادة الدنيا؛ لأن الثواب يستعمل بضد العقاب وإرادته هي عين العقاب؛ ولأنه ما ذكر الله تعالى عقيب قوله: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران: 145]، قوله:وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20]، كما قال تعالى في قوله:وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20] وله نظائر كثيرة، وقال في عقبه: { وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ } [آل عمران: 145]، وهذا وعد لا وعيد، والوعد يذكر عند فعل مقبول محمود، والوعيد يذكر عند فعل مردود ومذموم؛ والمعنى: سوف نجزي كلا الفريقين على قدر شكرهما، وهو رؤية النعمة، وجزاء الشكر ازدياد النعمة، فمن عمل شوقاً على الجنة فقد رأى نعمة الجنة فثوابه في الآخرة، ومن عمل شوقاً إلى الحق تعالى، فقد رأى نعمة وجود المنعم فثوابه في الدنيا؛ لأنه حاضر لا غيبة له، قريب لا بعيد،

السابقالتالي
2