ثم أخبر عن نجاة أهل الدرجات عن الدركات بقوله: { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } يشير إلى عالم الغيب والأرواح { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 83] أي: للأرواح المقدسة عن دنس الصفات الحيوانية المؤيدة بالتأييد الإلهي الذين لا يريدون علواً في أرض البشرية كالنفوس المتمردة كنفوس الفراعنة والجبابرة والأكاسرة ولا في أرض الروحانية مثل نفوس الأبالسة وبعض الأرواح الملكية مثل هاروت وماروت { وَلاَ فَسَاداً } [القصص: 83] بالنظر إلى غير الله يعني نجعل مملكة عالم الغيب والملكوت في تعرف الأرواح المذللة بالعبودية الخاضعة الخاشعة المطيعة المتواضعة المخلصة للربوبية غير الطالبة للعلو في الدارين ولا الناظرة إلى غير الله بنظر المحبة ليتصرف فيها بالكلية، يدل عليه قوله تعالى في بعض الكتب المنزلة: " عبدي أنا ملك حي لا أموت أبداً أطعني أجعلك ملكاً حياً لا تموت أبداً، عبدي أنا ملك إذا قلت بشيء كن فيكون أطعني أجعلك ملكاً إذا قلت لشيء كن فيكون " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت ". وبقوله: { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } يشير إلى أن عاقبة الأمور أن يكون ملك الوحدة لمن اتقى بوحدانية الحق عما سواه { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ } [القصص: 84] أي: بمثل هذه الحسنة أي الإعراض عما سوى الله { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [القصص: 84] من مواهب الحق بإفاضة الفيض الإلهي الذي يورث ملك الوحدة لأنه ما أعرض عنه فهو مخلوقه، فافهم جدًّا. { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [القصص: 84] يشير إلى جزاء السيئات على حسب ما يعملون من السيئات فإن كانت السيئة بالشرك بالله فجزاؤه النار للأبد، وإن كانت المعاصي فجزاؤه العذاب بقدر المعاصي صغيرها وكبيرها، وإن كان حب الدنيا والرئاسة والسلطة الدنيوية فجزاؤه الذلة والصغار ونيل الدركات، وإن كانت طلب نعيم الآخرة ورفعة الدرجات فجزاؤه الحرمان عن كمالات القرب وكشف شواهد الحق تعالى، وإن كانت التلذذ بفوائد العلوم العقلية واستجلاء المعاني المعقولة فجزاؤه الحرمان عن كشف العلوم اللدنية والمعارف الربانية، وإن كانت ببقاء الوجود فجزاؤه الحرمان عن الفناء في أمد البقاء بالله بتجلي صفات الجمال والجلال. وبقوله: { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } [القصص: 85] يشير إلى كمالية قدرها للنبي صلى الله عليه وسلم وخصه بها دون سائر الخلق في مقام الوحدة فبشره بها إن الذي { فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ } أي: أوجب عليك أن تتخلق بخلقه وهو صفتي فيفني نورها ظلمة صفتك، فتكون فانياً عن صفاتك باقياً بصفاتي عند تجلي صفاتي لصفاتك، وإنا { لَرَآدُّكَ } أي: راد مرآتك بتجلي ذاتي { إِلَىٰ مَعَادٍ } خرجت من العدم لتكون فانياً عن أنانية ذاتك بأنانية ذاتي باقياً بأنانيتي كما أن صفاتك صارت فانية عنا باقية بصفاتي لتبقى بالذات والصفات فانياً عنك باقياً بذاتي وصفاتي { قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ } ببذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ } [القصص: 85] وجوده باقياً { مُّبِينٍ } [القصص: 85] ضلالته في أفعاله وأحواله.