ثم أخبر عن فنون القرون بقوله تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } [المؤمنون: 31-32] إلى قوله: { بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ } [المؤمنون: 33] بحقيقة قوله تعالى: { وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا } [المؤمنون: 33] يشير إلى أن أهل الدنيا لما وسع الله عليهم الرزق وتنعموا به واتبعوا الشهوات، واشتغلوا بملاذ الدنيا وتحصيل جاهها ومناصبها أسكرتهم محبة الدنيا بغوا في الأرض وطغوا على الرسل وقالوا لرسلهم: { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [المؤمنون: 33-34] ولا يعلمون أن الرسل وأهل الله، وإن يأكلوا مما يأكل أهل الدنيا ولكن لما يأكلون كما يأكلون هؤلاء، فإنهم يأكلون كما قال الله تعالى:{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [محمد: 12] لأنهم يأكلون بالإسراف، وأهل الله يأكلون ولا يسرفون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاء " بل أهل الله يأكلون ولا يسرفون بأفواه القلوب مما يطعمهم ربهم ويسقيهم حيث يبيتون عند ربهم. وبقوله تعالى: { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } [المؤمنون: 35-36] يشير إلى كمال قدرته على الهداية والضلالة ألا ترى أنه كيف أصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه حتى ردكم إلى أعظم التيه بالاستبعاد في أمر الحشر والنشر، ومن أعمى قلوبهم لم يروا أن الإعادة أهون من الابتداء، وأن الذي هو قادر ببديع فطرته على إيجاد شيء من العدم وإعدامه من الوجود يكون قادراً على إعادته ثانياً قالوا: { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون: 37-39] قد مرَّ من تحقيقها في الآيات المتقدمة.